كتاب 11
قرض النحاس الباشا!
تعلمنا، في حكم العادة، درسا ثقيلا يجب ألا يتحول إلى عبرة، هو اليأس. صرنا نعرفه من ملامحه.. من سيمائه، كما في القول الكريم. نحاول بادئ الأمر ألا نصدق ما نرى، لكي نحفظ تفاؤلنا، لكنه يكرر الظهور عليك بقسوته وفظاظته وعدميته، فتوقن أنه باق أمام أمتك إلى وقت طويل، بملامح كثيرة ووجه واحد، فظ، قاس، متوحش، وعدمي.
أبحث عن الأخبار الطيبة في مصر كالبدوي الذي يبحث لراحلته عن القطرات، ويسقيها قبل أن يسقي أولاده. لكن بعد نقل المظاهرات والبنادق من مدينة نصر إلى جامعات مصر، أدركت ما كان يجب أن تدرك من قبل. الجماعة لن تقبل بأقل من خراب البصرة، لأنه ليس لديها عرض أفضل. من يقبل تخريب الأزهر يمكن أن يقبل تجفيف النيل.
لذلك، أقولها آسفا وحزينا – لم أتوقف كثيرا أمام موعد الاستفتاء على الدستور. المعركة معركة تغيير مصر وليس نظامها. وشبان مصر – بصرف النظر عن أعدادهم – يطلقون النار في حرم جامعة الأزهر. أي إن ثمة رجلا يقبل أن يذهب إلى الأزهر ومعه بندقية. ويقبل ذلك أبوه وأمه وإخوته وبعض رفاقه أيضا – بصرف النظر عن أعدادهم.
كتبت سناء البيسي في «الأهرام» حكاية مصطفى النحاس «أبو الدستور المصري». مقالات سناء حرام أن تُختصر. لكنها قصة رجل لم يكن يملك مهر البنت التي طلبها، وهو ألف جنيه، فأقرضه المبلغ طلعت حرب، دفع منه 600 جنيه إلى والدها، واشترى شبكة بـ200 جنيه، وأعطى أبناء شقيقه مائة جنيه يشترون ثيابا لأفراد العائلة تليق بحضور العرس.
وعندما كبر الباشا، ودب فيه المرض، صار البوابون يحملونه إلى المستوصف توفيرا للمال. وفي النهاية، اضطر إلى بيع سيارته! هذا الرجل خُلع بتهمة أنه باشا. وألغي من الذاكرة بتهمة أنه غير ثوري. وماتت زوجته لا تملك تكلفة دفنها. عندما يبدأ الظلم في مرحلة، لا يعود يتوقف. أهينت مصر يوم أهين رجالها التاريخيون. بدأت الدولة في الانهيار يوم انهار أهل الدستور. يوم لم يعد للنحاس من يحمله سوى البوابين، ويوم أرسلت المخابرات الرعاع يتظاهرون أمام مكتب «أبو الدساتير العربية» عبد الرزاق السنهوري هاتفين ذلك الهتاف الممجوج: لا حرية ولا دستور.
تدور حكاية مصطفى النحاس مثل أسطورة تروى للأطفال. نقرأها اليوم ونحن نقرع من حولها الطبول ونشعل عيدان الغابة. لكن مصطفى النحاس لم يكن سلوكا فرديا بل حالة أخلاقية عامة. كان القاعدة، لا شواذها. وعندما أطاح العسكريون بحالة متدهورة في قصر فاروق، أطاحوا معها بطبقة من الرقي المدني. ثم أطاحوا بعضهم ببعض. وكان رمز الجيش محمد نجيب، أو النحاس العسكري، فصار عبد الحكيم عامر. فصارت مصر إلى ما هي إليه.