كتاب 11
قضينة العالم العربي: تحدى الرئيس القادم (2)
معظم الطلاب الذين يدرسون لدرجة الدكتوراه أو الماجستير فى العلاقات الدولية قد يحارون فى فهم «القضينة»
وعلاقتها بتحويل قضايا الشرق الأوسط من صراع جيوبولتيكا إلى حزمة من القضايا تجعل دم المنطقة موزعا بين القبائل كما يقال. فكيف لهم أن يفهموا هذه التحولات التى لا تفسرها نظرية بعينها قد درسوها، فهم يقضون شهورا طويلة لمناقشة المدارس الفكرية والنظريات الحاكمة للعلاقات الدولية .
الملف النووى الإيرانى يكشف بما لا يدع مجالا للشك بأن سياسة إدارة أوباما تجاه الشرق الأوسط لا تحكمها أى نظرية معروفة فى العلاقات الدولية من حيث فهمها لطبيعة العلاقات الدولية فى الشرق الأوسط عموما وفى منطقة الخليج العربى خصوصا. فرغم أن أمريكا ملتزمة بتوازن القوى كمفهوم حاكم فى فكرة التفوق النوعى لإسرائيل على جيرانها كأساس للواقعية السياسية فإنها تخل بذات التوازن فى سلوكها تجاه إيران التى كانت المستفيد الأول من مغامرات أمريكا فى المنطقة من أفغانستان إلى العراق والتى أدت إلى تعاظم الدور الإيرانى وتمدد إيران على الأرض من العراق إلى سوريا إلى لبنان مضافا إليها دورها المشاغب فى البحرين فهل القائمون على «قضينة» الشرق الأوسط والخليج يريدون أن تقوم أمريكا بدور القوة التى تضبط توازن القوى مع إيران وتهميش الدول العربية فى هذا الشأن؟ وهل القضينة تعنى أن يصبح العالم العربى هو مجرد مجموعة قضايا تتحكم فيها دول الجوار غير العربى من إسرائيل لإيران إلى تركيا؟ وهل التعاون التركى الإيرانى الجديد فى سوريا وما بعدها هو امتداد للتعاون الاستراتيجى بين تركيا وإسرائيل، وتقوم الولايات المتحدة بدور القوة التى تحفظ التوازن؟ هل المعادلة الجديدة هى توريد البترول للغرب والولايات المتحدة تحديدا واستيراد الأمن الإقليمي؟
لست من المرتجفين من القنبلة النووية الإيرانية، بل إننى على العكس أرى فى حصول إيران على القنبلة ترويضا لسلوكها وليس العكس. إيران التى على الحافة كما هى الآن تتبنى حزمة سياسات عدائية تجاه العرب وتمددت فى الفضاء العربى بأكثر من قدراتها وحجمها، ولكن إيران النووية لن تغامر وستنكفئ على نفسها للحفاظ على قنابلها لا للحفاظ على حزب الله أو المالكى أو الأسد. الواقعية السياسية ترى أن الردع النووى هو أفضل الحالات لتجنب الصراع بين الدول، فرغم أننا نرى صراعات تقليدية كثيرا فإن الردع النووى أثبت أنه يحفظ السلم أكثر من أنه خطر. ولعل باكستان والهند النوويتين خير مثال على ذلك، فهما رغم خلافاتهما الحدودية الحادة فإنهما لم تدخلا فى حرب أو نزاعات مسلحة.. ومن هنا يكون حصول إيران على القنبلة النووية أفضل لأنه سيكون لديها مجموعة قليلة من القنابل تحاول الحفاظ عليها وبهذا تتحول الى لاعب إقليمى راشد وعاقل بدلا من ممارساتها الخارقة للقواعد الدولية. إذن احتواء إيران أو فرملة برنامجها النووى لا علاقة له بالواقعية السياسية. هو فقط يصب فى «قضينة» المنطقة ليس إلا. الغرب يعرف، وكل من درس ألف باء البرنامج النووى الإيرانى يعرف، أن إيران ومنذ أكثر من عامين لديها كمية كبيرة من محركات الطرد المركزى القادرة على إنتاج أكثر من قنبلة فى غضون ستة أشهر إذا ما شاءت ذلك، وربما لذلك قبلت إيران بفكرة الستة أشهر فى اتفاق جنيف لأن هذا الزمن يكفيها لإعلان نفسها قوة نووية حال الإخلال ببنود الاتفاق. ماذا يعنى كل هذا؟
يعنى هذا الشرح أول ما يعني، أن الانفتاح على إيران ليس سببه الملف النووى وإنما رسم ملامح مشهد استراتيجى جديد للمنطقة تكون القضايا هى الأساس. المشهد الاستراتيجى الجديد كما أراه، هو تحالف المحور غير العربى المتمثل فى إيران وتركيا وإسرائيل لتطويق ما تبقى من دول عربية فاعلة تحد من الهيمنة الإيرانية أو الإسرائيلية أو التركية على المنطقة. ولكن من يتابع المشهد يرى أن «قضينة» الشرق الأوسط فى التحليل النهائى تساوى مشروع إسقاط الدولة.. ففى اللحظة التى تسمع فيها مثلا بمسمى (مجموعة أصدقاء الصومال)، و(مجموعة أصدقاء اليمن)، و(أصدقاء ليبيا)، والآن (مجموعة أصدقاء سوريا)، ومن الوارد جدا لولا الدعم السعودى الإماراتى الكويتى لمصر لرأينا (مجموعة أصدقاء مصر).. أول ما تسمع بهذه المسميات، فاعرف أن هذه الدول أصبحت قضايا، أى أنه تم تدويل الأمر وسقطت الدولة كمثل لشعب وكيان جغرافى أو لاعب سياسي. إذا كان الهدف هو إسقاط ما تبقى من الدول العربية القوية القائمة مثل السعودية ومصر والإمارات، فإن الحل لهذه القضينة يكون فى تجمع عربى أمنى صريح، شيء أشبه بإعلان دمشق، ولكنه متطور مع دول الخليج (دون قطر) مضافا إليها مصر والأردن (5+2) يكون له برنامج مناورات مشترك مثلا يوحى بأننا أمام حالة دول لاعبة لا مجرد ساحات للعب يجب عدم الاستهانة بمشروع «القضينة»، فقد نجحت إسرائيل فى إدارة مسألة الصراع الفلسطينى – الإسرائيلى لأكثر من ستين عاما، وهى قادرة على إدارته لستين عاما أخري. أمريكا والغرب يريدان اعتماد صفحات من كتاب السياسات الإسرائيلية فى التعامل مع قضايا المنطقة تدير وتطيل صراع السنة والشيعة مثلا لعشرين عاما، وقضايا المياه والكيماوى والنووى لعشرين عاما أخري. لا حلول هناك لأى صراع، فقط إدارة صراع.. لا سلام، فقط هناك العملية.. ولا معركة مع إيران أو تغيير نظام فى سوريا، فقط إدارة صراع وفى أحسن الظروف تؤدى إدارة الصراع إلى انهيار منظومة الأعداء كما حدث مع الاتحاد السوفييتى سابقا. تم الانفتاح على جورباتشوف وقام هو بنفسه بتحطيم الاتحاد السوفياتي. قد يأمل حسنو النية فى إدارة أوباما بأن الانفتاح على إيران هو الطريقة المثلى التى تؤدى إلى انهيار النظام الإسلامى هناك. ولكن هناك فارقا كبيرا بين نظام لاهوتى فى طهران ونظام اشتراكى فى الاتحاد السوفييتي. فارق بين دولة تكون التقية السياسية عندها عقيدة، ودولة تمارس ما يعرف بالخداع الاستراتيجي. الخداع الاستراتيجى كما لعبة الشطرنج يلعب حسب قواعد معروفة للنصر وللهزيمة، أما التقية السياسية فأساسها إظهار قبول لقواعد اللعبة بهدف تحطيمها.
ومع ذلك، إن لم تكسب أمريكا والغرب فى انهيار إيران المأمول أو إيقاف برنامجها النووي، تكون قد كسبت «قضينة» الشرق الأوسط. وهذا مكسب لو تعلمون عظيم. التكالب على مقدراتنا من طامع بعيد وجوار غير عربى قريب لا يضمر لنا سوى مزيد من الوهن لنصبح ساحة خلفية لتعاونهم أو حروبهم. إما سوق بضائع أو مسرح حرب، جوار لا يريدنا لاعبين بل يسعى ليجعلنا ساحة للعب. يريدنا قضايا لا دولا تستحق مكانتها تحت الشمس.. ومن هنا، واجب علينا كأكاديميين وأساتذة علوم سياسية، أن نطلق صافرة الإنذار تنبيها من شكل جديد وخطير قادم من الاستعمار والهيمنة، اكتمل أو كاد أن يكتمل اسمه «قضينة» العالم العربي، وهذا هو تحدى مصر ورئيسها القادم.