كتاب 11

02:11 مساءً EET

«قضينة» العالم العربى: تحدى الرئيس القادم

السياق الاستراتيجى الحاكم للسياسة الخارجية لرئيس مصر القادم هو ما أسميه بقضينة العالم العربى أو حتى «قضينة»

الشرق الأوسط، والقضينة تعنى تحويل المنطقة من مجموعة دول ذات سيادة لها حكومات وبها شعوب كما هو متعارف عليه فى العلاقات الدولية إلى حزمة من القضايا والملفات وتهميش فكرة الدولة كلاعب رئيس أو حتى دور شعوبها وقياداتها. الناس العاديون بحاستهم الفطرية يؤكدون كل يوم على رفضهم لفكرة «القضينة» التى تحاول تفريغ الدول من شعوبها ويعلنون ذلك صراحة من خلال احتجاجاتهم اليومية. فهل احتجاجات ما سمى بالربيع العربى هى رفض لقضينة العالم العربي، أم أن هناك وجها آخر لهذه الاحتجاجات يهدف إلى إسقاط الدولة كما فى الحالة المصرية، وبالتالى تصبح هذه الاحتجاجات امتدادا لفكرة قضينة الدولة العربية؟ وهل يمكن اعتبار أن النووى الإيرانى هو سقف »قضينة« الشرق الأوسط؟

هنا أحاول وضع سياق نظرى وتحليلى لما نراه يتكشف أمام أعيننا، ولكننا لا نعرف له اسما بعد.

منذ سنوات والغرب يتحدث عن منطقتنا كمجموعة من الملفات والقضايا، آخرها الملف النووى الإيرانى، ومن قبله كانت قضية الكيماوى السوري، ومن قبلها الحديث عن ملف «القاعدة» والإرهاب وقضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقبل كل هذا وذاك كانت محاولة نقل اغتصاب الصهاينة لفلسطين لمجرد قضية، وهناك مناطق كاملة مثل الخليج العربى يتم الحديث عنها منذ  السبعينات فى القرن الماضى على أنها قضية أمن الطاقة أو توصيل الطاقة إلى العالم الصناعى وقبلنا نحن فى عالمنا العربى بهذا، كما قبلنا من قبل طواعية أن نسمى ما يحدث فى فلسطين بالقضية الفلسطينية أى لا فلسطين هناك هى مجرد قضية لاجئين وسكان، وفى أحسن الأحوال نسميها المسألة الفلسطينية.

ماذا تعنى فكرة «قضينة» الشرق الأوسط بالنسبة للمصالح العربية التقليدية. «قضينة» الشرق الأوسط تعنى أن الانتقال من عالم الجيوبولتكس الذى نعرفه فى عالم الدول التى أساسها أرض وحدود معروفة، إلى تهميش فكرة الأرض والتعامل مع القضايا عابرة الحدود من إرهاب وأسلحة نووية أو كيماوية أو حتى قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا يعنى إغفال قضية الأرض فى منطقة الصراع الأساسى فيها على الأرض والحدود فى فلسطين التى تحتلها إسرائيل، أو فى الجولان السورى المحتل، وكذلك جزر أبو موسى والطنب الصغرى والكبرى الواقعتين تحت الاحتلال الإيرانى، أو سبتة ومليلية المغربية التى تقع تحت الاحتلال الإسبانى. إذن «قضينة» الشرق الأوسط تعنى أول ما تعنى تغيير الموضوع. فبدلا من الحديث عن الاحتلال الإسرائيلى نتحدث عن الإرهاب وعن عنف الفلسطينيين تجاه إسرائيل، وبدلا من أن نتحدث عن التمدد الإيرانى فى العراق وسوريا وعن حزب الله الذى حول الدولة اللبنانية إلى رهينة إيرانية، أو عن احتلال إيران لجزر الإمارات الثلاث أبو موسى والطنب الكبرى والصغري.. بدلا من هذا كله، نتحدث عن النووى الإيرانى أو الكيماوى السورى. نحن أمام محاولة فجة لتغيير الموضوع فى المنطقة العربية ولفت الأنظار بعيدا عن جيوبولتيكا المنطقة وعن الأراضى العربية المحتلة إلى مجرد قضايا قد تحل أو لا تحل على المدى المتوسط أو تقذف بعيدا على المدى البعيد حال تأزم الأوضاع ووصولها إلى النقطة الحرجة. الأساس فى «قضينة» الشرق الأوسط هو إبعاد العيون عن إمكانية التوصل إلى حل، أيضا تغيير الموضوع بعيدا عن الثورات فى سوريا ومصر وتونس وإلهاء الناس بقائمة من القضايا مثل النووى والكيماوى والإرهاب. كما كان الحديث من قبل عن قضية المياه على أنها الصراع القادم فى الشرق الأوسط، وذلك بعد أن أعلنت الدول العربية النفطية بقيادة الملك السعودى فيصل بن عبد العزيز عام 1973 المقاطعة النفطية للغرب، كمحاولة للتقليل من أهمية النفط العربى من ناحية ولنقل الحديث بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعيدا عن سطح الأرض إلى جوف الأرض، ونقل الحديث أيضا بعيدا عن أهمية البترول الذى يمنح العرب ميزتهم النسبية فى الصراع العربى الإسرائيلي، إلى الحديث عن المياه بما فيها إلهاء أغنى دولة فى المنطقة بالمياه مثل مصر بقضية السدود الافريقية. الأساس ليس المياه وإنما تغيير الموضوع و«قضينة» العالم العربى.

«قضينة» الشرق الأوسط أيضا هى تبنى الصراعات التى تعكس تجمعات أكبر من الدولة، مثل قضية الصراع السنى الشيعى الذى لاح فى الأفق بوضوح أكبر بعد الاحتلال الأمريكى للعراق بعد سقوط صدام حسين. هذا الصراع الذى بدأ التنظير له فى واشنطن فى سياق نقل الصراع الإسلامى الأمريكى داخل الفضاء الإسلامى نفسه وغرق الناس فى تفاصيل هذا الصراع وتبعاته السياسية، مثل أيهما أفضل كحليف لواشنطن فى «الشرق الأوسط»: الشيعة أم السنة؟ وكتبت فى هذا كتبا وأوراق عمل معظمها كان يقول إن الرؤية التقليدية كانت تقول: إن الشيعة متمثلين فى إيران هم أعداء واشنطن، وجاءت أحداث الحادى عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 لتثبت أن السنة هم الخطر الحقيقى. وبدأ هذه المقولة المؤرخ المتخصص فى التاريخ العثمانى برنارد لويس وتبعه الأستاذ فى جامعة جونز هوبكنز فؤاد عجمى، ثم تبعهما الإيرانى والى نصر الذى حل محل فؤاد عجمى فى برنستون بعد أن غادر عجمى إلى ستانفورد. المهم هو أن التنظير للصراع السنى الشيعى والسياسات الناتجة عنه كان محور تفكير كبير فى واشنطن، وقبلها كان الحديث عن تيارات ما تحت الدولة من «المناطقية» «والقبلية» فى إطار تقسيم الدول والذى بدأ الحديث عنه فى البنتاغون من خلال أبحاث متطرفين يمينيين مثل الباحث الفرنسى الأمريكى لوران مورافيك الذى دعا بشكل فج بعد 11 سبتمبر 2001 إلى تقسيم السعودية. ولم يتوقف مورافيك عند بحثه الذى عرض له فى البنتاغون عام 2002، بل أصدر كتابا فيما بعد بعنوان «أمير الظلام» يصور السعودية كعدو لدود لأمريكا ومصالحها فى الشرق الأوسط. قضية تقسيم الكيانات السياسية استمرت وأتت أكلها من خلال نجاح التقسيم فى السودان، والآن يستمر حديث التقسيم ليشمل كلا من ليبيا والعراق وأخيرا نرى هذا الطرح فى المسألة السورية من خلال إقامة دولة للعلويين وأخرى للأكراد.

وهكذا يصبح الشرق الأوسط العربى هو مجموعة قضايا وليس دولا وشعوبا وحكومات، كما هو متعارف عليه فى التعريف الكلاسيكى للعلاقات الدولية. المنطقة العربية اليوم هى حزمة من القضايا تبدأ بالنفط وأمن الطاقة وأمن إسرائيل والأسلحة البيولوجية والكيماوية والنووية وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان واللاجئين الفلسطينيين أو الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا وعملية السلام إلى آخر قائمة طويلة من القضايا تحاول تهميش دور الدولة والقيادات المحلية حتى يتم تدريجيا ليس تدويل الأزمة السورية أو القضية الفلسطينية فحسب، وإنما تدويل العالم العربى برمته. قد يرى البعض فى هذا قراءة غير مبررة بالنسبة للاتفاق النووى الأخير بين إيران ومجموعة 5+1 الغربية، ولكن بربط القضايا بعضها ببعض تتضح ملامح مشهد استراتيجى جديد للشرق الأوسط عموما، والمنطقة العربية خصوصا يجب ان يأخذها رئيس مصر القادم بعين الاعتبار لأنها فى نهاية المطاف هى السياق اللاستراتيجى الحاكم للمنطقة خلال الخمسين سنة القادمة.

التعليقات