كتاب 11
فى مصر « اللى واقف صح غلط»
كيف يكون العنوان « اللى واقف صح غلط»؟ يبدو العنوان وكأنه يحمل لغزا وهذا ليس بصحيح. كما انه ليس عنوانا فلسفيا، فقط هو وصف مجرد لحال دونما تزويق أو تلوين للحقيقة.
ولكى تعرف معنى العبارة فى العنوان عليك فقط ان تلتزم بقواعد المرور«وتركن» سيارتك فى المكان القانونى المسموح به والمخصص لها فى وسط البلد فى القاهرة، بعد ذلك ستفهم معنى العنوان فى لمحة واحدة عندما تكتشف بعد خروجك بساعة وتعود لكى تركب سيارتك فتجد أولا هناك من ركن فى صف ثان الى جوارك اى سد عليك الطريق او ان من أمامك ركن فى الممنوع فحجز سيارتك خلفه ثم تنظر خلفك ولا مخرج . إذن غلط ان تركن سيارتك صح ولكى يتحقق لك ما تريد لابد ان تركن غلط عشان تكون صح. وايضاً تدفع رشاوى وتقدم تنازلات لأنك مدرك انك أخذت مكان غيرك وراكن غلط وتحاول تمريره على انه الصح. هنا تنافق وتأخذ مخالفات وضعيف امام رجل المرور فتفسد المشهد برمته لتبرير الخطأ. ماذا يعنى ذلك خارج سياق ركن السيارة فى الشارع وما دلالة ذلك على حياتنا الاجتماعية والسياسية بعد ثورتين نقول عنهما أنهما مجيدتان؟
قبل الوقوف وقبل استخدام الترميز وعلوم الدلالة، اذكر القارئ، ان الكلمتين المفتاح فى العنوان هما؛ «صح وغلط»، ونحن فى هذا الوطن فقدنا المعيار او البوصلة أو الميزان الذى يحدد الصح من الغلط، رغم اننا ندعى وجودها جميعا. ومن يدعون يعرفون انهم امام حالة فيلم درب الهوى الشهير حيث حزب « ف.ش» الفضيلة والشرف اللذين يمثلهما حسن عابدين فى الفيلم ويؤمن بهما احمد زكى بسذاجة المشغول بالكتب والبعيد عن ألاعيب السياسة ولكن حزب «ف. ش» يكشف عن مكنونه فى هتاف فاروق الفيشاوى الخافت « هه ..هه» والتى تعنى هلس فى هلس.
ولو انتقلنا من الثقافة الشعبية للأفلام الكاشفة للغش فى غياب معايير وميزان أو مسطرة نحدد بها الصح من الخطأ، لو انتقلنا، الى الميثولوجيا الفرعونية هناك قصة قريبة مما نحن فيه، حيث يحاكم الثائر بميزان عدل غير الميزان، وتختلط موازين العدالة والقيم عند الحاكم والمحكوم. يسجل بهاء طاهر فى مجموعته القصصية «أنا الملك جئت»، حوارا بين الكاهن الثائر على عبادة الإله آمون «كاى – نن»، وبين كهنة النظام الذين أرادوا أن يعدموه على تمرده كما رأى الفرعون. فما كان من الكاهن الثائر إلا أن طلب الاحتكام إلى العدالة المتمثلة فى ريشة إلهة العدل ماعت، وريشة ماعت هى ريشة العدل فى الميثولوجيا المصرية القديمة، إذ توضع الريشة فى كفة الميزان، وقلب المتوفى فى الكفة الأخري، فإذا تساوى القلب مع الريشة دخل المتوفى الفردوس، أو فى هذه الحالة نجا من العقاب فى الدنيا. وقبل المحاكمة طلب كبير الكهنة من الكاهن الثائر، أن يلتقيا فى جلسة سرية، لما بينهما من صداقة قديمة منذ أن كانا معا فى مدرسة الكهنوت. وأسر إليه بسر خطير يضرب فى قلب فكرتى العدل والحكم فى تلك الفترة من السيولة المصرية التى يختلط فيها «الصح بالغلط»، أسر الكاهن الأكبر لصديقه الذى سيواجه مصير الإعدام المحتوم، بأنه بالفعل ستكون هناك محاكمة وسيكون هناك ميزان، وستكون هناك ريشة، ولكنها لن تكون هى ريشة إلهة العدل ماعت، ولن يكون الميزان هو الميزان. ببساطة إن الموضوع سيكون من أوله «غش فى غش». وبهذا، ومنذ زمن، رفع بهاء طاهر المرآة للمصريين كى يروا وجوههم الحقيقية فيها، ولكنهم حتى الآن عنها معرضون، لأن الوطن على ما يبدو أصبح غير الوطن، وأصبح الوقوف صح هو الغلط. وان شلة أو ثلة ترى ان الدنيا تؤخذ بالدراع قررت ان تقف فى صف ثان وثالث وتحجز سيارات الموهوبين وتبعدهم عن المشهد.مصر اليوم فى اشد الحاجة الى الصح والى ابنائها المتمسكين بفكرة الوقوف الصح. يجب ألا نقبل فى فترة السيولة الثورية الوقوف الخطأ وتعطيل سير الوطن وقفل شرايينه بكلسترول الكذب والبجاحة، لا يجوز، ان تقر بأن هذا السلوك هو الصح لأن عددا كبيرا من الناس قرر ذلك رغم أنهم على خطأ.
الحضارات كما البشر نحكم عليها بالمشى او بالسير. الطفل البشرى يتعلم المشى ثم يكبر فتصبح مشيته متزنه « مش مشى بطال» او مترنح. فكيف لنا ان ندعى اننا حضارة قديمة وناضجة ونحن حتى الان لم نتعلم المشي؟ انظر كيف يمشى المصريون فى شوارع القاهرة بين السيارات بما يخالف القانون؟ مقبول من الدول الحديثة التى تمثل الطفولة السياسية ألا تعرف المشى ولكنه عار على حضارة قديمة مثل مصر انها لم تتعلم المشى بعد. والمشى هنا رمزية واسعة لعدم الالتزام بقواعد السير .
على الرئيس القادم المستعجل على إصلاح مصر وهو يبحث عن شراكة مع المجتمع الا يستسهل ويأخذ من الناس القادرة على أن تتبعه بسرعة لانها « راكنه صف تانى وتالت» رغم أنهم واقفون غلط. على الرئيس القادم أن يتعب نفسه شوية ويدقق ويرنو خلف السيارات والناس اللى راكنة غلط كى يختار من الملتزمين بالقانون ًالواقفين فى المكان الصح رغم صعوبة خروجهم او إخراجهم او حتى إيجادهم.
ما يحتاجه الرئيس القادم هو الميزان وريشة العدل. يحتاج لمعايير اختيار لبشر ينفذون سياسات تلبى حاجات المصريين الملحة. معيار الاختيار وتحديد القضايا وترتيبها حسب الأولويات هو الأساس، ومحتاج ان يتجاهل الناس «اللى واقفه غلط» وضد القانون كى تصل الى الرئيس قبل الآخرين. نحتاج نظام لا يكافئ الغلط بل يكافئ الصح.
مصر، سيدى الرئيس القادم، لا تحتاج سياسة. فقط تحتاج سياسات. سياسات يصنعها الواقفون فى «الصح». السياسات أصبحت مصطلحا سييء السمعة بعد لجنة سياسات جمال مبارك وذلك لان معظم من كانوا فيها انتقاهم من «اللى واقفين غلط». السياسات الصح هى الحل لانه يمكن الحكم عليها، أما فى السياسة ف «اللى واقف غلط هو الصح». وهنا الغلط.