كتاب 11
الدولة الشفوية
الدولة الشفوية هى غير الدولة الصفوية، التى حكمت إيران فى القرن السادس عشر، والتى امتد نفوذها من قندهار إلى بغداد. الدولة الشفوية أصغر من الصفوية بكثير، ولكن مصدر إلهامها هو ذات المساحة من بغداد إلى قندهار، مساحة يرتع فيها الشفويون، نجوم الفضائيات العربية، الذين لا يعتمدون على المنطق أو الحقائق أو الدقة أساسا فى نقل المعلومة والخبر أو تحليلهما، فقط يعتمدون على علو الصوت أو طرح تساؤلات تحمل الإجابة فى داخلها.
الدول، حسب الأعراف الدولية، تتكون من حكومة وشعب وأرض محددة، أما الدولة الشفوية فهى لا تعترف بالحكومات أصلا، وتتكون فقط من جماهير وهى بالطبع «بلا حدود». فى الدول عادة يكون الإعلام هو السلطة الرابعة، أما فى الدولة الشفوية فالإعلام هو السلطة الرابحة، أى بدل أن تراقب المؤسسة الإعلامية الفساد فى دولة المقر، نجدها تركز عدساتها على الدول «إللى جنبها».
الشفويون اليوم هم ظاهرة خطيرة تأكل فى خلايا العقل العربي، هذا العقل الجمعي، الذى انتقل من حكايات المصاطب والدواوين والمقاهى إلى الراديو والتليفزيون، دونما التوقف طويلا عند الآلة الكاتبة. الظاهرة بدأت مع مقدمى البرامج فى الفضائيات العربية، إلا أنها اليوم اتسعت لتشمل ضيوف البرنامج شبه الدائمين، وانتشرت العدوى واستفحلت أخيرا لتشمل المشاهدين العاديين، الذين يشاركون عبر الهاتف بآرائهم الشفوية!
لم يكتف الشفويون بما أحدثوه من تلوث أصاب البيئة الإعلامية المرئية والمسموعة، بل قرروا ممارسة الكتابة فى الصحف حتى يعم التلوث.. ولدينا كثير من الصحف التى فتحت لهم أبوابها، وخصوصا الصحف القطرية، وليس من المبالغة اعتبار الدوحة اليوم «عاصمة للدولة الشفوية».
مقدم البرامج، الذى بدأ الكتابة فى الصحف، رجل قادم لتوه من عالم الشفاهة، مقالاته تشبه صرخاته على الهواء وتحريضاته لضيوفه كى ينهش واحدهم فى لحم الآخر، وكأننا فى حلبة لصراع الديكة. الكتابة التحريرية مصدر إغراء للشفويين أمثاله، إذ يبدو أن الأمر اختلط عليهم، فهم لا يفرقون بين التحرير الصحافى وتحرير الأرض على الشاشات الفضائية، فهم غارقون فى عالم البطولات المتوهمة ولا يقبلون بشيء أقل من «التحرير»!
بداية، أنا لست ضد الشفوية، فهى ظاهرة موجودة فى أغلب الثقافات، والتراث الثقافى العربى شفاهى بمعظمه، وقد تم تدوينه لاحقا، لكن باعتماد آليات معقدة للتأكد من الدقة والحقيقة ومصادر المعلومات تجنبا للوقوع فى فخ الزيف. ولا أنكر أننى بذلت جهدا كى أبحث لشفويى اليوم عن جذور فكرية فى موروثنا الثقافى والشعبي، فوجدت أنهم ليسوا امتدادا لهذا التراث بمعناه الفكرى الراقي، أى ليس بين شفويى اليوم من يحمل رؤية المتنبى العالية والمركبة للكون، حتى نغفر له مدح كافور بما يشبه الذم، ولا هم جرير ولا الفرزدق لنسهو عن هجوهم لنا بجميل شعرهم وإبداعهم الفكري.. ولكن يمكن اعتبارهم، فى أحسن الأحوال، تطورا إلكترونيا لمصطبة «الحكواتي» فى المقاهى القديمة والموالد الشعبية،
مقدم البرامج الشفوي، يسند حججه واتهاماته دائما قائلا: (يقول البعض كذا وكذا..)، أو يسوق رأيه على أنه رأى أحدهم: (أحدهم يتساءل..)، إلى آخر هذه المقولات اللامهنية، التى يجسدها بأوضح صورة برنامج «الاتجاه المعاكس» وكذلك برنامج «أكثر من رأي»، مقولات تفتقر إلى أبسط قواعد الدقة والأمانة. لو أراد هذا النجم الفضائى أن يرتقى من على مصطبة «الحكواتى» ليصبح صحافيا حقيقيا نثق بحياديته وأمانته، فليقل لنا من هم هؤلاء (البعض) الذين يقولون ويستند هو إلى آرائهم، أو ليفصح لنا من هو (أحدهم) الذى يتساءل دائما. وما دمنا فى سياق الحديث عن اللامهنية، فخذ مثلا آخر: تعرض قناة الشفويين الفضائية أشرطة مسجلة فى الغالب لعمليات إرهابية، مرفقة بأغان شجية تمجد (المقاومة)، وتقول المذيعة لنا: «لم يتسن للمحطة التأكد من صحة الشريط».. إذا لم يتسن للمحطة التأكد من صحة الشريط، فأين احترام المهنية الصحافية فى عرضه إذن؟ وخذ هذا أيضا: فى خبر عن الاستفتاء فى مصر، قال مذيع القناة نفسها، انهم «مسكوا» النظام المصرى متلبسا بالتزوير، حيث استطاع مراسلهم، الذى لا يحمل الجنسية المصرية التصويت فى الاستفتاء، وقلت لحظتها «برافو» فالقناة التى أنتقد أداءها المهنى فاجأتنا أخيرا بسبق صحفى فى موضوع مهم كتزوير الانتخابات، ولكن عندما عرضت القناة التقرير المصور، تبين أن مراسلها كذب أكثر من مرة، عندما سأله القائمون على مركز الاقتراع عن جنسيته، وليس هذا فحسب، بل إن التقرير المصور لم يعرض لنا المراسل المذكور وهو يقترع فعلا. فمن المزور إذن، النظام المصرى أم قناة الشفويين؟!
لا نعرف على أى أسس مهنية يعمل هؤلاء القائمون على هذه المحطات الشفوية!
قناة «الشفويين» الفضائية تدعى أن «ميثاق الشرف الصحفي»، الذى تبنته منذ عامين هو بمثابة الأسس المهنية التى تعتمدها، وإن سلمنا معها بذلك، فعلى ماذا إذن كانت تعتمد فى السنوات الثمانى السابقة؟ علما بأن الميثاق لا يعكس أى معيار تحريرى يحتكم إليه. إذا أرادت قناة الشفويين أن نحاكمها باعتبارها قناة دولية (كما تدعي) تلعب فى كأس العالم، فيجب ألا تتوقع منا أن نتساهل ونحاكمها بقوانين «الكرة الشراب» التى يلعب بها مراهقو الحارات والأزقة.
ولما كان ما يقدمه الشفويون خاليا تماما من أى دقة وحقيقة وحياد، لذا فإنهم يلجأون دائما إلى ما يغطون جهلهم به، فتراهم مرة يلتفون بعباءة الوطنية ومرة بعباءة العروبة ومرات كثيرة بعباءة الإسلام، مدعين أنهم أصحاب الحقيقة المطلقة، الذين لديهم الاتصال المباشر (بالفاكس والإيميل) مع قوى الكون الغيبية، والآخرون هم فقط مجموعة من الخونة والعملاء.
درجت نكتة لاذعة أيام زيارة أنور السادات الاستوقفنى مقال لرئيس تحرير جريدة «الوطن» القطرية، الذى اتهم فيه قناة «الشفويين» بأنها ممنوعة على أصحاب البلاد الأصليين. وتبادرت إلى ذهنى صورتان جغرافيتان متشابهتان، الأولى للمنطقة الخضراء فى العراق تحيطها القوات الأميركية، والثانية للمنطقة الخضراء الخاصة بقناة «الشفويين» تحيطها القوات الأميركية أيضا.. الفارق الوحيد بين الصورتين هو أن شاغلى المنطقة الخضراء فى (عاصمة الشفويين)، يتهمون شاغلى المنطقة الخضراء فى العراق، بأنهم حولوا بغداد عاصمة لعملاء أميركا والصفويين.. ترى من العميل اليوم، الصفويون أم الشفويون؟!.. سؤال موجه لأمير «الدولة الشفوية».