كتاب 11

08:46 صباحًا EET

نسيم الوطن

الغياب احيانا حضور. ربع قرن تقريبا مر، لم اشهد فيه شم النسيم فى مصر، تلك الاحتفالية الجماعية المتجاوزة لضيق الأفق وضيق العقول

الى مستويات اعلى من بناء الأمم عن طريق هذا الصمغ الحضارى الذى نعرفه على انه الثقافة بمعناها الواسع. ترى ما الجديد الذى يمكننى كتابته عن شم النسيم بعد ربع قرن من الغياب والحضور الذى لم يكتبه مصريون آخرون او يستحق النشر أمام العامة؟ الجديد هو رؤيتى التى تحاول تكوين علاقات جديدة غير مألوفة بين ما هو مألوف للخروج بفهم جديد للذات والمجتمع وربما فكرة الوطن.

وجودى بين أهلى فى مصر فى شم النسيم، نسيم ما بين الشتاء والصيف بالنسبة للعامة، ونسيم وطن بالنسبة لي، دائما يذكرنى بأننى فى بلد غير كل البلدان. بلد يشبه خبزه الذى نسميه فى الصعيد «المطبق» أو يسميه اهل الشمال بــ»الفطير المشلتت». طبقات بعضها فوق بعض من الفطائر وكذلك طبقات بعضها فوق بعض من الحضارة والاستمرارية المدنية والثقافية. تلك العادة الحضارية، الاستمرارية لا الانقطاع، هى ما تميز مصر عن غيرها من البلدان.

يلون المصريون البيض فى شم النسيم وكأن «الفروجه»، كما يسميها أهلى فى الصعيد، او الدجاجة تبيض بيضا ملونا فيما يشبه الإعجاز، أو نوعا من الواقعية السحرية، إذ يقال إن من رفضوا قيامة المسيح لن يصدقوها الا اذا باضت الفروجة بيضة ملونة، والفروجة من الفرج ايضا. فجاء الفرج وظهر البيض الملون فى كل الوادى فى شيء اقرب الى السحر فصدقوا بقيامة المسيح، وهذا امر فيه من الخرافة اكثر من العلم ولكن الحضارة هى تراكم لخرافات بعضها فوق بعض صدقها أهلها وآمنوا بها فأصبحت حقيقة وربما اكثر حقيقية من الحقائق المادية ذاتها. الا تدمع أعيننا ونحن نقرأ الفاتحة على ضريح الجندى المجهول رغم انه لا عظام هناك؟ ألا تقشعر أبداننا امام قطعة قماش ترفرف بالأحمر والأبيض والأسود؟إنها ليست مثل أى قطعة قماش لأننا تخيلنا فيها الوطن، وخيالنا الجمعى اكثر حقيقة من اى حقيقة، ومن هذا الخيال تصنع الأوطان.

إن التجمع الإنسانى الذى يراه المرء فى شم النسيم فى جغرافيا القرب والتلاصق المصرية التى تميز حضارة النهر، هو حالة حضارية يبحث فيها الانسان عن الأمان الى جوار أخيه الانسان. وتلك عادة حضارية تمثل ذلك التأرجح القديم قدم النهر وقدم الأهرامات بين شعب رأى أمانه فى ملك على الارض يحكم مجتمعا نهريا منظما، وبين ملك فى السماء جاء مع إخناتون وتبلور فى رهبنة المسيحية المنسحبة عن العالم. اما اليوم فأمان المصرى خليط بين الاثنين: ملك فى الارض وملك فى السماء. وما تلك الرغبة الجامحة فى ان يكون للمجتمع بطل قومى أشبه بالآلهة القديمة إلا دافع قديم قدم المكان. بطل شعبى استمر طوال التاريخ من الناس يجسد ما يظنونه قيما تمثل ذلك الاسمنت أو الصمغ الحضارى الذى يصنع ما نعرفه على انه الدولة او الأمة .

بناء حضارى من سعف النخيل الأخضر فى أسبوع السعف والكنيسة القبطية وترانيمها، ومآذن تملأ الآفاق يصدح عليها الأذان بموسيقى مصرية ونغم مصرى أقرب الى الترانيم معلنا ان « لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله .» وهناك فى الأزهر كما فى الدير تعكف العيون المصرية لفك طلاسم النص المقدس من فقه اللغة الى مناهج ومشارب عدة، تذهب مذاهب شتى لتفسير رسالة الحق الى البشر. شم النسيم وهذا التجمع البشرى الذى يشتم فيه المصريون ليس رائحة البصل والفسيخ وبداية ازهار الربيع، بل يشتم فيه المصريون أيضاً رائحة بعضهم البعض ورائحة الوطن، هو واحدة من طبقات المطبق او الفطير المشلتت الذى استخدمته ككناية او صورة للتراكم الحضارى المصري. ليس لدى شك ان هذا التراكم او هذه السجادة المصرية مصنوعة من خيوط ضعيفة بمفردها، ولكنها فى النهاية تكون نسيجا قويا يثبت كل يوم للعالم ان عادة مصر الحضارية رغم الفقر ورغم العوز مازالت باقية ومستمرة تصنعها أشياء صغيرة وناعمة أرق من النسيم إذا سرى.

ما عليك الا ان تذهب إلى قبر النبى دانيال فى الاسكندرية فى أقصى الشمال، او مقام سيدى ابو الحجاج فى الجانب الجنوبى الشرقى لمعبد الأقصر، لترى رجاحة العقل المصرى وقدرته على جمع المتناقضات وإعادة صياغتها فى احتفالية اجتماعية مصرية خالصة . فرغم ان النبى دانيال مقبرة لقديس مسيحى موجودة فى جامع وكانت من قبل مقبرة الإسكندر ذى القرنين فى إشارة الى شكل خوذة الإسكندر الأكبر، إلا ان العقل المصرى لا يجد غضاضة فى هذا الخلط العقائدى بنفس الطريقة التى يحتفل بها أهلى فى الأقصر بالليلة الختامية لسيدى ابو الحجاج، حيث يحملون مركبا ويرقصون فى ذات رمزية مراكب الشمس، ولكن الاحتفال بطقوس فرعونية تقام لولى مسلم اليوم.

العادات التى تربيت عليها فى نقادة فى غرب الأقصر من طقوس الطهور والزواج والجنائز تخلط فى طياتها الفرعونى بالمسيحى بالفرعونى من دون ان ترمش لنا عين. ولا تناقض هناك، فالبركة فى القديس والشيخ وجدران المعابد ومن هذا الخليط تصنع مادة بناء الأوطان .

شم نسيم مصر، وشم نسيم الوطن، وشم رائحة المصريين فى جغرافيا القرب والتلاصق التى يصنعها وادى النيل فيها معنى الدولة التى نريدها. دولة مدنية حافظة للعادة الحضارية لوطن قديم، وطن طبقات بعضها فوق بعض مثل طبقات المطبق او الفطير المشلتت لا الفطير المشتت.

التعليقات