مصر الكبرى
الفساد والكوارث في مصر .. دراسة تحليلية وميدانية لكارثة عبارة السلام 98
كتبت – خديجة فيصل
إن الكوارث لم تتوقف منذ بدء الخليقة ، وفي كافة أنحاء العالم ، ولا يمكننا،في الواقع، الحيلولة دون وقوع حوادث؛ كالزلازل والأعاصير، ولكن في وسعنا الحد من احتمال تحولها إلي كارثة ، فقد استوعبت دول العالم المتقدمة كيفية مواجهة مثل هذه الحوادث ، فأسست هيئات ضخمة للإغاثة، تتوقع حدوث الكوارث بأنواعها , وتقوم بالتدريب علي كيفية التعامل معها علي أسس علمية ، وباستخدام أحدث وسائل التقنيـة ، وتهرع إلي أماكن النكبات في أسرع وقت لتقلل من آثار الدمار .
أما الأخطر من الكوارث الطبيعية،فهو ما يسبَّبه الإنسان لغيره من مِحَنٍ تحوَّل حياته إلي جحيم متواصل، وذلك في ظل الأنظمة الفاشية والديكتاتوريات، والجماعات الإرهابية التي تنشر أفكاراً عقيمة، تشل عقول العامة وتعطل نمو المجتمع ، وتشير العديد من الدوريات التي تتناول موضوع الكوارث ، أن الكوارث أمر لا يمكن تجنبه، في ضوء المحتوي التاريخي، إلا أن القدرة علي مواجهة الكوارث ، والتخفيف من حدتها، هي التي تختلف من مجتمع إلي آخر، طبقاً للبنية التحتية والأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية .
فواحدة من أكبر الكوارث المصرية بل العربية هي (عبارة السلام 98) التي وقعت في صباح يوم الجمعة 3/2/2006م ، تعد كارثة بكل المقاييس ، حيث إن جميع محافظات مصر بالإضافة إلى بعض الجنسيات الأخرى العربية والأجنبية ، قد عانت من آثار هذه الكارثة . كما أن هذه الكارثة تعد بمنزلة شكل من أشكال جرائم الدولة في انتهاك حقوق الإنسان ، فقد كشفت هذه الكارثة عن أن هناك العديد من مظاهر الفساد، التي يقوم بها بعض رجال الأعمال والنخبة السياسية، مستغلين بعض ثغرات القانون ،ومن ثَمَّ فهناك ترابط مؤسسي بين قطاعات المجتمع في احتواء الفساد، والحفاظ عليه، بل وازدهاره . فالفساد لا يحدث من فراغ، ولا بشكل عشوائي ، ولكنه يحدث من خلال حسابات دقيقة لكل الأطراف المشتركة في هذه الكارثة ، ويبدو أن كثرة القوانين تؤدي إلى زيادة ثغراتها وسهولة مخالفتها .
لذا يستعرض الدكتور / السيد عوض أستاذ مساعد ورئيس قسم الاجتماع بكلية الآداب – جامعة جنوب الوادي  ثلاثة محاور رئيسية تكشف عن أوجه الخلل البنائي في المجتمع المصري، الذي ما زال يمثل تربة خصبة لنمو العصابات الإجرامية علي كافة المستويات، سواء في القمة أو في القاع من ناحية ، أو في القوى المحلية الداخلية أو الخارجية مشيرا إلى كارثة( عبارة السلام 98 ) بأن الطريق الوحيد لمواجهتها، يتمثل في تنسيق الجهود بين الأجهزة العلمية والبحثية والسياسية والإعلامية والأمنية والقضائية والدينية والتربوية . فالمحور الأول يخص التعرف على الجهات المسئولة عن الكارثة : فكشف تقرير لجنة تقصي الحقائق عن أن هناك ثلاث جهات اشتركت في المسئولية عن كارثة العبارة السلام 98 ، وهي: الهيئة المصرية العامة للسلامة البحرية ، وشركة السلام للملاحة البحرية التي تملك وتدير العبارة ، والمسئولون عن إنقاذ الركاب بعد وقوع الكارثة . و هناك دور لقطاع النقل البحري وإدارة التفتيش البحري في تمرير أوراق عبارات غير صالحة ، واعتماد شهادات الإشراف الدولي المزيفة والتي تقر بصلاحية عبارات متهالكة. و في ضوء ما أشارت إليه تسجيلات الصندوق الأسود ، كشفت عن عجز قبطان العبارة السلام 98 عن اتخاذ أي قرار مناسب، في الوقت المناسب، وعجزه عن إدارة الأزمة بالطريقة الواجبة، بالرغم من أن الحريق قد استمر لمدة أربع ساعات ونصف ، فلم يتخذ هذا القبطان قراراً بالعودة ، ولا بإخلاء العبارة ، وإنما عجز عن معرفة مكان العبارة ، وعن توجيهها ، بل وتردد في اختيار الوجهة التي يجب أن يتجه إليها ، بما يشير إلى تدني المستوى العلمي ، وغياب المعرفة العلمية والمهارات العملية، ومهارات إدارة الأزمات ومواجهة الطوارئ ، وإذا كان علم اجتماع الكوارث يصنف الكوارث إلى ثلاثة أنواع ؛ كوارث طبيعية ، وكوارث تكنولوجية ، وكوارث متعمدة ، فإن هذه الكارثة تدخل ضمن الكوارث المتعمدة، شأنها شأن الإرهاب . كشفت هذه الكارثة عن الفساد السياسي في مصر وإهمال الحكومة، حيث إنه لم يتم رفع الحصانة البرلمانية عن رئيس مجلس إدارة شركة السلام للنقل البحري، إلا بعد تهريبه بممتلكاته وثرواته إلى لندن . كما أن تبرئة المتهمين في أول حكم في قضية كارثة( العبارة السلام 98 )، دليل قاطع على مدى قدرة أصحاب شركة السلام للنقل البحري على التأثير في مسار التشريع والإفلات من العقاب . كما أن هذه الكارثة كشفت عن أن الجرائم التي ارتكبها أصحاب شركة السلام للنقل البحري، ترتكب في ظل ما يطلق عليه جرائم الشركات المتعددة الجنسيات أو الجرائم الدولية ، حيث يشير تقرير لجنة تقصي الحقائق عن الكارثة ، إلى أن (العبارة السلام 98 ) ملك لشركة غير مصرية حيث تحمل علم بنما ، ولكنها تدار بمعرفة وكيل مصري ، وأن العبارة غرقت في مياه دولية.  والمحور الثاني بالنسبة لعملية التناول القانوني والقضائي لهذه الكارثة يفسر طبيعة العلاقة بين المصريين والسلطة وهى علاقة مفارقة فكلما زادت وطأه الحكام علي المحكومين ، فر المحكومون من الحياة أو من الوطن. أما الفرار من الحياة فقد تكفَّلت به جرائم الانتحار ، أو الموت غرقاً في البحار والمحيطات، فتكفلت به الهجرة غير الشرعية ، وأما عن الفرار من الوطن، فقد تكفلت به هجرة صفوة العقول المصرية ، وفرار المواطنين البسطاء للعمل في الدول العربية المجاورة، والعودة في عبارات متهالكة ليكونوا طعاماً للأسماك المتوحشة .فيشير التناول القانوني والقضائي لكارثة العبارة السلام 98، إلى أن عدم الأخذ بما جاء بتقرير لجنه تقصى الحقائق، وأن مثل هذه التقارير ما هي إلا وسيلة لجذب الانتباه الجماهيري والحصول علي تأييدهم .وأن قيام النيابة العامة بإسقاط الاتهامات الخطيرة المتعلقة بمدى سلامة العبارة ، وإجراءات تسييرها ، وحمولتها الزائدة ، والشهادات المحلية والعالمية المزورة، وغيرها من الاتهامات الخطيرة ، وتستيف الأوراق أمام القاضي والإبقاء على تهمة واحدة- دليلٌ قاطع على انهيار هيبة القانون . والمحور الثالث يتمثل في مشكلة تحديد الآثار الاجتماعية والاقتصادية لهذه الكارثة التي تعد من المشكلات المعقدة، نظراً لتعدد أبعادها وتداخلها مع بعضها البعض ، فهناك آثار مباشرة ، وهي تلك الأضرار التي تقع على أسر الضحايا بل وعلى الناجين أنفسهم ، وهناك الآثار غير المباشرة ، وهي تلك الأضرار التي وقعت على المجتمع بشكل كامل، والتي تبدو في نفقات الدولة في عمليات الإنقاذ وتقديم كافة أوجه الرعاية المادية والصحية والنفسية . فغالبية ( ركاب العبارة السلام 98 ) من الضحايا ( 71.1 % ) ، وأن هذه النسبة ترتفع إلى ( 73.2 % ) بين المصريين ، في حين تنخفض إلى ( 47.5 % ) بين الأجانب . كما أنه على الرغم من أن غالبية ركاب العبارة من الذكور ( 87.6 % ) ، وأن الإناث يمثلون فقط ( 12.4 % ) ، فإن الإناث كن أكثر تعرضاً للموت ( 91.2 % ) مـقـارنة بالذكـور ( 69.6 % ) ، وتتفق هذه النتيجة مع ما توصلت إليه دراسة أجريت على كارثة تسونامي في جنوب آسيا عام 2006 ، حيث أشارت إلى الإناث كن أكثر ضحايا لهذه الكارثة من الذكور ، حيث إن الآباء هناك يعلمون أبناءهم الذكور فنون السباحة المطلوبة لحياة الصيد ، في حين أن الإناث لا يتعلمن السباحة. وأن جميع محافظات مصر – فيما عدا ثلاث محافظات، هي مطروح وسيناء الشمالية وسيناء الجنوبية – قد عانت من آثار هذه الكارثة .فجميع ركاب العبارة من محافظة البحر الأحمر، قد استطاعوا النجـاة من هذه الكارثة ، ويبدو أن تراكم الكوارث في منطقة معينة يؤدي إلى خلق ثقافة الإصرار على مواجهة الكوارث . على الرغم من أن محافظات الوجه القبلي تمثل ( 36.5 % ) من السكان في مصر طبقاً لتعداد 2006 ( الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء ، 2008م ) ، فإن أكثر من نصف ركاب العبارة ( 50.4 % ) ينتمون إلى هذه المحافظات . ومن أكثر المحافظات التي عانت من آثار هذه الكارثة هي محافظة قنا ، فغالبية الضحايا في قنا من الريف بنسبة تفوق كثيراً عن نسبة تمثيلهم في المجتمع العام ، أما الضحايا من الحضر فقد كانوا بنسبة تقل إلى الضعف تقريباً عن نسبة تمثيلهم في المجتمع العام ، ويشير ذلك إلى حقيقة، مؤداها، أنه إذا كانت هناك تنمية في صعيد مصر، فإن هذه التنمية تستأثر بها المدن دون الريف ، ففي المدن يستطيع الشباب أن يجد فرص عمل بحكم مشروعات التنمية المتاحة في الحضر ، أما الريف في صعيد مصر فما زال بعيداً عن اهتمام منفذي البرامج ، فأهل الريف يعيشون دائماً، وطول تاريخهم، في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية سيئة . فغالبية الضحايا ( 91.4 % ) تقع أعمارهم ما بين 25 إلى 54 عاماً ، ومثل هذه الفترة هي من أهم فترات النشاط الإنتاجي ، وفقدانهم لم يكن فقط خسارة مباشرة لطاقة إنتاجية مسئولة عن أسرهم ومصدر دخل وإعالة لهم ، بل أيضاً خسارة لموارد التنمية الاقتصادية في المجتمع بشكل عام ، ويتمثل ذلك في النفقات الباهظة التي تستهلكها عمليات الوقاية والمؤسسات التي تنشأ من أجل ذلك ، وهذه النفقات غير الإنتاجية كان من الممكن استثمارها في عمليات الإنتاج لتعود على المجتمع بالفائدة . كما أن الغالبية العظمى من الضحايا متزوجون ، و هناك بعض الحالات متزوجة بأكثر من واحدة بما أدى إلى ترمل إحدى وثمانين زوجة، وترمل زوج واحد، بفقدان زوجته ، وما يترتب على ذلك من فقدان الواحدة الأسرية وتفككها، فضلاً عما تتعرض له الأرملة في صعيد مصر من قيود لا يسمح لها المجتمع بالعمل ، مما يجعلها أكثر اعتماداً على المساعدات الحكومية أو المساعدات من الأقارب ، حيث ترتب على هذه الكارثة زيادة حجم إعالة النساء إلى ( 90 % ) . و غالبية أسر الضحايا ليست لهم أية دخول شهرية ، فقد كانوا يعتمدون بشكل كامل على عمل العائل في الخارج، مما يزيد من حدة المأساة عمقاً . و غالبية الضحايا (87.8 %) لديهم أطفال ما بين طفل واحد إلى اثنى عَشَرَ طفلاً ، الأمر الذي يشير إلى عقم عمليات التوعية لبرامج تنظيم الأسرة ، كما تشير المشاهدات الواقعية إلى حرمان محافظة قنـا من مثل هذه العمليات . هذه الكارثة خلفت وراءها(258) يتيماً من عائلات الضحايا في محافظة قنا، فقدوا آباءهم في لحظة واحدة، مما يترتب عليه حرمانهم من أهم مصادر الإشباع العاطفي، وفقدان سلطة الإشراف عليهم وتوجيههم وافتقاد المثل الأعلى الذي يمثل قدوة لهم . و أن ( 64 % ) من أبناء الضحايا بمحافظة قنـا، يدرسون في مراحل التعليم المختلفة – بالإضافة إلى أن أكثر من خُمْس أبناء الضحايا دون سن التعليم ، ومما لا شك فيه أن هذه الكارثة قد يترتب عليها إخفاق بعضهم في المسيرة التعليمية الخاصة بهم ، هذا فضلاً عن أن بعض أبناء الضحايا الذين تجاوزوا سن التعليم، لم يسبق لهم دخول أية مرحلة تعليمية، بما يسهم  في تفشي ظاهرتي الأمية وأطفال الشوارع .
فتمثل كارثة عبارة السلام واحدة من أهم وأكبر الكوارث المصرية فمرت بلادنا بالعديد من الكوارث وأشهرها كارثة العبارة سالم إكسبريس 1991 م ، والتي راح ضحيتها أكثر من ألف مواطن .وكارثة زلزال أكتوبر 1992 م ، والتي راح ضحيتها 545 مواطناً، وإصابة 6512 مواطناً وتشريد أكثر من 50.000 مواطن . وكذلك كارثة احتراق قطار الصعيد رقم 822 عام 2002 م ، والذي أدي إلي تفحم أكثر من ألف مواطن مصري ، تفحمت جُثثهم بشكل مأساوي ، وتم تبرئة كبار المسئولين بهيئة السكك الحديدية ، وَوُجهت المسئولية إلي بعض صغار العاملين بالهيئة . وأيضا كارثة احتراق قصر ثقافة بني سويف عام 2005، والتي راح ضحيتها 52 مواطناً وإصابة 25 مواطناً ، وتم تبرئة قيادات وزارة الثقافة والمسئولين الكبار ، بعد أن كانت محكمة أول درجة قد أصدرت حكما بالحبس المشدد لمدة عشر سنوات وغرامة 10000 جنيه علي ثمانية متهمين، حملتهم مسئولية الإهمال الجسيم والإخلال بواجبات وظيفتهم . وكارثة انهيار صخرة الدويقة وقتل العديد من المواطنين وتشريد الآلاف منهم. وكارثة إنتاج وتوزيع أكياس الدم الملوثة، عن طريق شركة هايدلينا للمستلزمات الطبية، والتي أدت إلي إصابة الآلاف من المصريين بفيروس " سي " والتهاب الكبد الوبائي .  وأخرها وأكبرها كوارث الثورة المضادة بدءاً من موقعة الجمل، مرورا بحرق المجمع العلمي ، وصولا إلى مذبحة بورسعيد، ومازالت أجهزة العدالة  الجنائية تبحث عن كبش فداء لهذه الكوارث السابقة واللاحقة .
لذلك نناشد الدولة بإصلاح القوانين، وألا يكون المشرع مطلق اليد في إصدار قوانين تفوض لأي شخص، حتى إن كان رئيس الدولة، مخالفة الدستور؛ حتى يمكن تحاشي خَلْق مافيا الفساد، ومحاكمة الفاسدين المنظورين .كذلك  البدء بإجراء استبيان جماهيري، لمعرفة تأثير الفساد علي الحياة اليومية للمواطنين ، يمكن من خلاله تحديد الأولويات التي تعكس معاناة الجماهير . وأيضا بضرورة اهتمام الدولة بضرورة إقامة مشروعات تنموية كبرى  وخاصة في ريف صعيد مصر ، ودعم المشروعات الصغيرة ، ومشروعات الأسر المنتجة، والتي يتم من خلالها تشغيل أبناء الضحايا وزوجاتهم .