أفضل المقالات في الصحف العربية
السعودية والتغييرات الاستراتيجية
ظلت الدولة السعودية تقارب أحداث المنطقة بحكمة تاريخية توارثها قادتها وأنقذتهم وأنقذت شعبهم وبلادهم من كثيرٍ من المشكلات الكبرى إقليميا ودوليا، وشواهد التاريخ كثيرة.
مواقف الملك عبد الله ومحاولاته وعنايته بلمّ شمل العرب منذ توليه مقاليد الحكم في البلاد حاضرة وبارزة، لقد حاول مرارا حماية لبنان من مغامرات حزب الله وسعى لاستعادة بشار الأسد من الفك الإيراني في قمّة الكويت وقدّم مبادرة سلامٍ عربية مع إسرائيل وحاول توحيد الصف الفلسطيني بالمعاهدة بين حركتي فتح وحماس، وحارب الإرهاب وانتصر عليه، وقاد داخليا مشاريع كبرى للتطوير في كافة المجالات وآتت مشاريعه أكلها والبقية لم تزل في طور الإيناع والإثمار.
لقد ظلّ التطوير السعودي سياسيا يسير عبر توقيت السعودية وحدها، لا عبر ضغوطٍ خارجية ولا ضمن تصعيداتٍ داخلية، والسعودية اختارت بوعي اعتماد التطوير السياسي المتدرج، لا الطفرات ولا التباطؤ. تلك الطفرات التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالنكبات وما جمهوريات ما كان يعرف بالربيع العربي إلا شواهد قائمة على استحكام الفوضى والدول التي حاولت النجاة من تلك الفوضى تشبثت بعلاقاتٍ استراتيجية مع السعودية.
ولا التباطؤ في حلّ الملفات الداخلية العالقة بل التطوير الواعي كما في مشاريع تطوير القضاء ومشروع الابتعاث التاريخي، وإصلاح التعليم العام وتسليمه لأمير مثل خالد الفيصل، مع سعي حثيثٍ لتحسين أداء الوزارات ومحاسبة المقصرين، وتنظيم وتطوير المؤسسات المعنية بالشأن الديني كهيئة كبار العلماء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، وتحسين دخل المواطن ومساعدة المتعثرين والعاطلين والإصرار على استمرار الدعم الحكومي للسلع الأساسية وغيرها الكثير مما يوفر رخاء أكبر للمواطن.
وإن كان هذا السياق معروفا لدى البعض فإن ما لا يدركه كثيرون داخل السعودية وخارجها هو أن السعودية ومنذ ما يقارب السنوات الثلاث قد اختارت استراتيجية جديدة تتسم بالمبادرة والحزم مع الحكمة والعقلانية، فدوليا وسعّت شراكاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية شرقا وغربا وأثبتت أنها رقمٌ صعبٌ في كل المعادلات الدولية، وكما أنها قادرة على أن تكون حليفا جيدا فهي قادرة على خلق المشكلات حين يريد البعض تجاوزها أو تمرير اتفاقياتٍ تخالف سياستها واستراتيجيتها وتهضم في الوقت نفسه حقوق الدول والشعوب العربية.
وإقليميا قامت بأدوارٍ كبيرة ومهمة في مواجهة مؤامرات الأعداء الكاشحين كالجمهورية الإسلامية في إيران وأتباعها في المنطقة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، كما بنت تحالفا عربيا قويا مع الإمارات العربية المتحدة ومصر والكويت والبحرين وغالبية الدول العربية لاستعادة الصف العربي. وسحبت سفيرها من الدوحة مع دولتين خليجيتين هما دولة الإمارات ومملكة البحرين في سعي لاستعادة قطر للصفّ الخليجي، وسيكون على بعض الدول الإقليمية كتركيا، تلك التي تضع قدما مع إيران وأخرى مع جماعة الإخوان المسلمين، أن تحسب حجم الضرر على اقتصادها حين تعادي السعودية وحلفها العربي الجديد بشعاراتٍ هي أول من يناقضها.
يمثل النموذج السوري خير مثالٍ في هذا السياق، فالموقف السعودي كان متقدما تجاه دعم الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد على كل دول العالم، وهو لم يزل دورا شديد الفعالية، ورغم محاولات بعض الإخوة الأعداء لتمزيق صفّ المعارضة السورية والجيش الحر فإن السعودية انتصرت مؤخرا عليهم وعلى الأعداء الكاشحين في ترتيب الأوضاع في سوريا سياسيا وعسكريا وهي سعت بوعي للاستمرار في سياساتها في حرب الإرهاب في كل مكان باعتباره خطرا يهدد البشرية جمعاء.
تعلم السعودية جيدا أن قضية الشعب السوري قضية عادلة بكل المقاييس من الشرائع الدينية إلى القوانين الدولية، إنها قضية شعبٍ مظلومٍ ومضطهدٍ ضد حاكمٍ مجرمٍ وقاتلٍ باعترافاتٍ وإداناتٍ دولية، ولهذا فقد سعت لإدانة المنضمين للجماعات الإرهابية في سوريا كداعش التابعة لإيران والنصرة التابعة لتنظيم القاعدة، كما جرّمت تشريعيا أي مشاركة للسعوديين في قتالٍ خارجيٍ، كما واصلت السعي في لبنان للقضاء على تنظيمات الإرهاب أيا كانت.
إن السعودية أحبطت من جهة استراتيجية النظام السوري في الزعم بأنه يحارب تنظيماتٍ إرهابية حتى قبل أن يخرج أي تنظيمٍ إرهابي في سوريا، ومن جهة أخرى فهي تثبت للعالم أنّ الخلط بين معارضة الشعب السوري ونضاله لنيل حقوقه ومحاكمة مجرمي الحرب وبناء دولة حديثة هو واحدٌ من أكبر الأخطاء الدولية.
العالم يحترم الأقوياء لا بمعنى قوة السلاح بل بمعنى قوّة الشرعية والعقل والحق والمنطق والمصالح السياسية، ومن هنا فإن التصور الدولي الجديد لما يحدث في سوريا هو أن السعودية شريكٌ رئيسٌ في استقرار المنطقة ومحاربة الإرهاب، بينما إيران تدعم كل أنواع الإرهاب في المنطقة وفي سوريا تحديدا.
والسؤال المهمّ هو من أين يأتي المقاتلون في سوريا؟ ومن يدعمهم؟ ومن يقف وراءهم؟ والجواب هو أنه في عالم مفتوحٍ ومواقف دولية متناقضة بين التخاذل والتغاضي، فإن السعودية وكما حاربت الإرهاب محليا وإقليميا ودوليا فهي تواصل ذات النهج وتجرّم قانونيا وشرعيا أي مشاركة لمواطنيها في القتال المباشر في سوريا وهي تلاحق المشاركين وتضيّق على المحرضين وتدفع باتجاه حصر المعركة بين شعبٍ محقٍ وحاكمٍ قاتلٍ.
وبالمقابل، نجد أن إيران تدفع بمقاتلين من الحرس الثوري الإيراني ومن أتباعها في لبنان كحزب الله ومن العراق بعشرات الكتائب والمسميات، ومن اليمن كأتباع الحوثي حيث يأتون آمنين مدعومين، وبعض آخر يأتي من السعودية وبعض دول الخليج كالكويت والبحرين والفارق أنهم من الطرف السعودي مدانون ومجرّمون.
ثمة مقاتلون يأتون من سياقاتٍ أخرى فبعضهم جاء من الشيشان أو بعض المناطق المسلمة التابعة لروسيا أو من الجمهوريات المستقلة عنها، ومن بعض الدول الغربية.
كان حسن نصر الله يهدد سابقا بأنه سيضرب «ما بعد بعد حيفا» وصار اليوم يجهد نفسه في إرسال التطمينات لإسرائيل بأن «الممانعة» و«المقاومة» في جنوب لبنان ستكون هي «الأهدأ» لأنه مشغولٌ بقتل الشعب السوري.
أخيرا، فإن السعودية بتنظيم انتقال السلطة بشكلٍ محكمٍ وبحربٍ معلنة على كل جماعات الإرهاب والمحرضين والمقاتلين داخليا وباعتمادها تحالفاتٍ قوية خليجيا وعربيا ودوليا إنما ترسل رسالة واضحة المعالم للجميع أن الاستراتيجية السعودية الجديدة يجب أن تكون حاضرة في ذهن كل عدوٍ أو حليفٍ أو صديقٍ يلبس لباس الخصوم.