مصر الكبرى
مقال كتبه الدكتور فندي في ٢٠٠٣ جدير بالقراءة اليوم
في المقال السابق عرضت للفارق ما بين الثقة الناتجة عن الاتصال المباشر بين الأفراد في المحيط المحلي( القرية) وبين اهتزاز هذه الثقة كلما توسع العمران من المدينة المحلية إلي العالمية.
وقلت إن الكذب والصدق هما منتجات اجتماعية لاتكتسب قيمتها الا بعد خضوعها لاجراءات صارمة, سواء كانت هذه الاجراءات محلية جدا تعتمد علي معرفة التاريخ الشخصي والعائلي للافراد وبشكل مكثف كما في حالة القريه, أو الاعتماد علي مؤسسات حديثة لاجراء اختبارات الصدق والكذب في حالة المدينة, ولكي تتضح الصورة بشكل أفضل دعني أقول بأن ما نتحدث عنه هنا في حقيقة الامر هو دور الأدوات البسيطة التي احدثت تغيرا جذريا في فهمنا لعنصري الزمان والمكان ودور الانسان كثالث في عملية التغيير هذه, وابدأ بأداتين محددتين هما اختراع فكرة النقود والثانية هي فكرة الساعة وتنظيم الوقت, ثم أعرج علي اثر ثالث هو فكرة الخرائط الجغرافية وتقسيم العالم إلي مناطق مختلفة تحدد فروق التوقيت, واثر ذلك علي عملية انتاج المصداقية والثقة في عصر الحداثة, وكذلك الفارق ما بين هذا النوع من الثقة وثقة المجتمع التقليدي أو ما قبل الحديث.
كما ذكرت آنفا, اقتصاد المقايضة كان يعني أن تواجه الشخص الذي تشتري منه السلعة في سياقه المحلي, أي تنظر إلي بضاعته, وكذلك إلي ملامح وجهه, ربما في سوق محلية يمثل فيها الواقفون من حولك شهداء علي عملية المقايضة هذه. وكما ذكرت أيضا أنني شخصيا تعاملت بهذه الطريقه عندما كنت في القرية, وكانت هذه الملاحظة دائما مثار تندر من اصدقائي في درس الاقتصاد الحديث في فترة الدراسات العليا, لأنهم كلما تحدثوا عن اقتصاد المقايضة كانوا يتحدثون عن أوروبا العصور الوسطي ولم يتخيلوا أن يجلس إلي جانبهم صديق مارس هذا بنفسه. الفكرة الاساسية هنا تخص ما حدث لعنصري الزمان والمكان عندما ابتعدنا من اقتصاد المقايضة ودخلت النقود كواسطة تحمل في طياتها قيمة اقتصادية متعارفا عليها, ولم تدخل النقود كعامل فاصل بين متعاملين في اقتصاد المقايضة فقط بل ايضا دخلت في خلق فكرة الوقت مقابل النقود, في الحالة الأولي اثر دخول النقود علي تقييد فكرة المكان وفي الثانية كان له اثره علي اعادة ترتيب الزمان. وأعني بهذا أن النقود أدت إلي فصل الزمان عن المكان في التعاملات اليومية, ففي اقتصاد المقايضة كان شراء سلعة في سوق القريه هو وجود فرد يبيع وآخر يشتري وجها لوجة في مكان محدد وزمان محدد ولايمكن للتبادل أن يحدث دون تلك الشروط الصارمة المحكومة بعنصري الزمان والمكان الملتصقين, دخول النقود فتح هذه العلاقة, أي يمكن البيع والشراء بين بائع ومشتري مهما تباعدت المسافات, وبالطبع هذا يتطلب ثقة في المؤسسات الحديثة للنقد, يتطلب أيضا قوة دوله تحمي هذه المؤسسات ومؤشرات كثيرة أخري تحدد قيمة العملة عند انتقالها من سوقها المحلية إلي السوق في سياق آخر سواء اكان هذا يحدث في السياق الاقليمي أو السياق العالمي. هذه المؤسسات الحاكمة لسير العملات لابد وأن يكون لديها الثقة عند العاملين بها والمتعاملين معها, إذن نحن انتقلنا هنا في التواصل وجها لوجه في ذات المكان وذات الزمان إلي التواصل غير المباشر بين أناس في اماكن مختلفة وكذلك أزمنه مختلفه, فكيف صدقنا أن ما يحدث هو فعليا محل ثقة ؟! الحداثة الأوروبية قدمت لنا نظاما يمكن تسميته بنظام الخبراء الذي أدي إلي تركيز هذه الثقه, فرغم أننا لانعرف العاملين في مصانع شركة مرسيدس للسيارات أو العاملين في شركة هوندا أو حتي هونداي الكورية, الا اننا نثق في أن السيارة ستعمل إذا ما وضعنا فيها البنزين وادرنا المفتاح, وأن الفرامل ستعمل عندما نريد التوقف. تري لماذا نحن لدينا هذه الثقةشبه الغيبية في صناعات شركة مرسيدس وهوندا ؟كيف حدث ذلك وهم أناس لانراهم ولانعرفهم ويدينون بدين غير ديننا, كيف نركب الطائرة الجامبو المصنوعة في ماكدونالد دوجلاس الامريكية ونصدق أنها ستعمل وانها لن تنفجر بنا؟ كيف صدقنا ذلك رغم أن صناعة هذه الطائرة قام بها اناس لانعرفهم في أماكن مختلفة؟
ما صدقناه هنا هو ليس الزمان أو المكان, ولكننا صدقنا نظام الخبرات الحداثي المرتبط بعلامة بوينج أو هوندا أو مرسيدس, صدقناه بناء علي تجربة وممارسة مباشرة وغير مباشرة, نثق فيه ونصدقه أيضا له ثمن نقدي, اي أنه ذو قيمة مالية, ماحدث هنا هو انتقال انظمة الثقة من المباشرة في المكان والزمان إلي ثقة الواسطة الفاصلة بين الزمان والمكان عن طريق انظمة حداثية لاختيار المصداقية.
النقود إذن كانت البداية لفصل الزمان عن المكان, وهنا اتحدث عن النقود بصيغتها الفيزيائية, أما النقود الاليكترونية[Electronicmoney] التي تنقل جبالا من الاموال الإلكترونية في ثانية عبر القارات فهي تفتح لنا مجال الحديث عن سرعة الحركة في الزمان وتأثيرها علي احساسنا بالمكان. هذه السرعة بدأت باختصار مسافات التواصل من البريد العادي الي البريد الالكتروني. وهنا اضرب مثلا شخصيا, حيث ارسلت خطابا إلي قريتي من واشنطن عام1985 فاستغرق خمسة عشرة يوما في الوصول الي العنوان, ثم عاد إلي الرد في خمسة عشرة يوما أخري. اذن نحن نتحدث عن وصول الرسالة وعودتها من واشنطن ـ مصر والعكس في مدة ثلاثين يوما. هذا الزمان يعطي احساسا ببعد المكان, أما الآن فأنا ارسل بريدا الكترونيا فيعود في30 دقيقة واحيانا في ذات اللحظة عن طريق المسنجر, فاختصار ثلاثين يوما إلي ثلاثين دقيقة أو ثلاثين ثانية هو اسراع وضغط في الزمن يعطي إيحاء بالقرب اذن إحساسنا بأننا نحيا في قرية صغيرة هو ليس تقلصا في عنصر المكان ولكنه تغير في الزمن يعطي احساسا جديد بالمكان. هذا الاحساس الجديد يؤثر علي فهم الانسان للمكان والزمان الجديدين, ولكن يبقي الاساسهنا هو ما تغير في قيم الانسان أو مدي تأثير تغيرات الزمان والمكان علي منظومة الإنسان القيمية.
وإذا انتقلنا من الحديث عن النقود إلي الحديث عن الساعة كمقياس للزمان, فاننا نلحظ هذه التغيرات, فالانسان الذي كان يذهب الي حقله مع طلوع الشمس ويعود الي بيته لحظة غروبها, هو انسان يستخدم علامات الطبيعة لتحديد زمانه. زمان طبيعي( شروق الشمس وغروبها) ومكان طبيعي( مكان الميلاد). وحتي تقسيم هذا الزمان كان تقسيما ممتدا وليس محددا بالدقة التي نراها الآن, فنقول سألقاك بعد الغروب أو نلتقي في الصباح, وان استخدمت زمانا روحانيا قلت سنلتقي بعد صلاة العصر. وعلامات الزمان هنا كلها علامات طبيعية ومحلية مرتبطة بهذا المكان بالتحديد وليس بأماكن أخري من العالم. أما الآن بوجود الساعة تقسم الزمان إلي الثانية والدقيقة والساعة, وانتقل حساب الزمان من علامات الطبيعة وظواهرها إلي عالم مجرد ومعادلات رقمية,( سألقاك في الثامنة والنصف صباحا) ويمكنك أن تحدد الزمن الموازي لك في أوروبا أو أمريكا بعملية حسابية, فإذا أخذت موعدا للحديث مع صديق خارج نطاق زمنك المحلي علي التليفون أو علي الإنترنت فإنك تقوم بعملية حسابية لحساب فارق التوقيت. لذلك نجد بعض الناس الآن مازالوا مغرمين بسؤال( الساعة كام عندكم الآن, ليلا أم نهارا؟) ويتعجبون لمعرفة أنه ليل في أمريكا ونهار في مصر, فهم حتي هذه اللحظة رغم معرفتهم بحساب الساعات الرقمية المجردة مازالوا مرتبطين بعلامات الطبيعة كوسائل حساب. ماقامت الساعة بآدائه وكذلك الخرائط التي حددت مناطق فروق التوقيت من خلال خطوط الطول وخطوط العرض هو تفريغ المكان والزمان من محليته. فإن كانت النقود قد جعلت التعامل عن بعد يحل محل التعامل القريب وأنها مددت المكان والزمان, ونقلتهما من سياق محلي إلي سياق عالمي, فإننا نجد في حالة الساعة وحالة الخرائط عملية تفريغ للمكان من محتواه المحلي, وكذلك تفريغ الزمان, فليس بالضرورة أننا نتحدث عن شروق الشمس وغيابها كمحددات للزمان, وإنما نستخدم عملية مجردة تجعل زماننا متساويا مع زمان غيرنا.هذا التفريغ الذي حدث للزمان والمكان عن طريق أدوات نستخدمها بشكل يومي مثل النقود وساعة قياس الوقت, نقل الزمان من محليته وحرره من مكانه, هذه النقلة لها تأثير علي المنظومة القيمية للمجتمعات, ترتبط بعملية التفريغ هذه. وأول ما تؤدي إليه عملية التفريغ الخاصة بالزمان والمكان هو مسألة عدم الاستقرار, وأولي علامات عدم الاستقرار هذه هي اهتزاز الثقة في المحلي والعالمي في ذات الوقت حتي نحصل علي صيغ جديدة للمصداقية.
العالم الغربي الحديث الذي فرغ الزمان والمكان من محتواهما قبلنا طور نظام ثقة من خلال مؤسسات بنيت علي أساس تواصل عبر المسافات وتواصل مباشر, إذن انتقل التعامل من حالة النقود العادية إلي حالة الأموال الإلكترونية واستخدام الكارت في سحب الأموال وإيداعها وارسالها. وأوجد لذلك نظام ثقة تحكمه مؤسسات النقد الحديثة, مؤسسات تحكمها قوانين محلية وكذلك قوانين عابرة للقومية, أما حالتنا فهي حالة يختلط فيها نظام الثقة بين المباشرة وبين نظام الخبرة, فنحن نسوق السيارة ونحن واثقون أن شركة مرسيدس تصنع سيارة لن تخفق الفرامل في أداء مهمتها فيها, ولكننا في نفس الوقت لانصدق أو لا نثق في أن نعطي سلفة نقدية لأحد لا نعرفه جيدا, إذن نحن جزء من ثقة الحداثة في وقت من النهار, وجزء من شك ما قبل الحداثة أو المجتمع التقليدي في سلوك آخر مختلف, ذلك لأن مجتمعاتنا هي خليط من الحديث وما قبل الحديث, وما بعد الحديث, تجمعات عمرانية مختلفة جزء منها ينتمي إلي الحداثة وكثير منها ينتمي إلي التقليدية ولكل منهما نظام ثقة مختلف.كما أن المنظومة القيمية الحاكمة لهذا العمران الذي فرغ فيه عنصرا الزمان والمكان من محتواهما هي منظومة مضطربة, لأن المؤسسات الحامية للثقة في كل منهما مؤسسات تقليدية في طريقها إلي التآكل, أو مؤسسات حديثة النشأة وضعيفة البني.
هناك أدوات كثيرة مثل النقود والساعة أدت إلي تغيير ملامح الزمان والمكان ومعها جاء عمران قيمي جديد, لا هو قديم ذو جذور ولا هو حديث ومستقبلي واعد, ولكنه في منزلة ما بين المنزلتين. عمران اضطراب وعمران شك وقلق واهتزاز. وللحديث صلة.