كتاب 11

08:23 صباحًا EET

خرج ولم يدخل. عبثية المشهد

ليس كلها وإنما كثير منها – تحتاج الى ناقد مسرحى كى نفهم ما يجرى أكثر من حاجتها الى محلل سياسى، فكثير من الأحداث تتكشف فى سياق المسرح والنقد المسرحى مما يفتح آفاقا جديدة لفرز ما هو سياسى كى نأخذه بجدية، وما هو مسرحى ويترك لمجال الترويح عن النفس ومجال النقد الفني.

أدهشنى مؤتمر صحفى للفريق متقاعد سامى عنان يعلن فيه انسحابه من الانتخابات الرئاسية المقبلة وربما لأن عينى جديدة على البلد ولم تتعود بعد على عبثية المشهد السياسى المصرى كنت أسأل الأسئلة الأولية؟ مثلا وقبل أن نبدأ فى أى تحليل، هل كان هناك مؤتمر صحفى يعلن فيه الفريق الدخول كى يعقد مؤتمر إعلان الخروج؟ للإجابة عن هذا السؤال بحثت كثيراً ولم أجد أى تصريح بالصوت أو بالصورة يعلن فيه الفريق عنان عن ترشحه أو حتى نيته للترشح يوم أن يفتح باب الترشح. إذن نحن أمام حالة خروج لم يسبقها دخول. معقول؟.

نحن أمام مشهد مسرحى عبثى أشبه بمسرحيات صامويل بسكين او هارولد بنتر، شيء من مسرح العبث كمسرحية “فى انتظار جودو”، الرجل الذى لا يجيء أبدا فى كل المسرحية، أو مسرحية توفيق الحكيم “يا طالع الشجرة” المأخوذة من الأغنية العبثية التراثية “يا طالع الشجرة هاتلى معاك بقرة، تحلب وتسقينى بالمعلقة الصيني”، فالبقر ليس على الشجر وإنما يمشى على الأرض ومن معجزات الزمان ان يطلع البقر على الشجر، ولا يسقى صاحبه بملاعق صينية أو غيرها الى آخر هذه المستحيلات. ومع ذلك يحسب لتوفيق الحكيم المثقف انه لم يكن مجرد ناقل لمسرح العبث بل أصل له من خلال التنقيب فى التربة الثقافية المصرية فى أغنية يا طالع الشجرة لكى يؤصل لتيار جديد فى المسرح العالمى أيامها. بعد الثورة وخلال السنوات الثلاث الماضية ادعى ان مصر لا تحتاج الى محلل سياسى ليوضح لنا المشهد وملابساته وإنما يحتاج الى ناقد مسرحى بمعنى ان العمل الثورى نفسه وما صاحبه من مشاهد يمكن تفسيرها وتحليلها فى جزء كبير منها بأدوات النقد المسرحى بشكل أفضل من أدوات التحليل السياسي.

مشهد مسرح العبث فى حالة الخروج الذى لم يسبقه دخول هو واحد من عشرات بل مئات المشاهد المسرحية فى مصر الثورة وليست جميع المشاهد تحظى بذات العدد من المتفرجين، كما ان جودة المسرحية وجودة الممثلين ليست كلها على وتيرة واحدة، أو ان مخرج المسرحية يتقن إخراجها لذا يذهب الكثير من المسرحيات اليومية طى النسيان أو يجد مكانه الطبيعى كفقرة قصيرة فى برنامج تليفزيونى هزلي، كفقرة تثير الشفقة والضحك معا، وخروج عنان كان من هذا النوع من المسرحية ذات الفصل الواحد، فصل الخروج.

فى بداية الثورة فى يناير 2011 كان ميدان التحرير ولا غيره هو خشبة المسرح الرئيسية للوطن، كل شيء كان يعبر عنه فى التحرير لدرجة خروج حكومة عصام شرف من التحرير ثم تنوعت المسارح وتنقلت من التحرير الى الاتحادية الى شاشات التلفزة. طبعا كان الدم حقيقيا وليس فى فكرة المسرح كمنشور للفهم إهمال للتضحيات بل فى منظور المسرح فرز لما هو حقيقى من المغشوش.

فى هذا السياق ليس هناك مشكلة فى عرض فصل خروج سامى عنان على خشبة مسرح جانبى ولكن هناك مشكلة فى عرضه على الخشبة الرئيسية، أو على المسرح الرئيسي. ان يستحوذ حدث قادم من مسرح العبث على العناوين الرئيسية للصحف الكبرى والتلفزة فى كل ربوع الوطن مشكلة. وحتى نكون منصفين، حادثة الخروج دونما دخول ليست هى الوحيدة من جملة المشاهد العبثية، فالانسحاب بعبثيتيه ليس هو محور المقال بل مجرد مثال على الفوضى الحادثة فى ترتيب الأجندة الإعلامية فى الخدعة البصرية التى حدثت.

لنبدأ اولا بالخدعة البصرية. انسحاب الفريق عنان والعبارات التى قالها تؤصل لفكرة الخدعة البصرية، أى أن يقول مثلا انه خرج من اجل الحفاظ على تماسك الصف الوطنى او ألا يكون سببا فى شق الصف الى آخر العبارات التى تحمل هذه المعاني. طبعا لا يتوارد الى ذهنى ان الفريق عنان من صنع تلك الخدعة البصرية، ولكنه كان ضحية من حوله الذين صوروا له من خلال استطلاعات رأى وهمية أن لديه فعلا صفا وجمهورا يمكن ان يقسم الوطن نصفين إن تقدم للترشح ضد المشير السيسي. أو انه صدق المؤثرات الصوتية الوهمية التى صنعتها حملته من جمهور وهمى يهتف له، أو أن حملته فسرت إجماع الشارع بصورة ضيقة جداً لتعنى إجماع الشارع الذى يسكن فيه الفريق. المهم فى كل هذا أن المؤتمر الصحفى خلق حالة مساواة غير موجودة بين الفريق والمشير رغم أنهما فى التحليل الشعبى عكس بعضهما تماماً فيما يخص مستقبل الوطن، واكتفى بالقول ان احدهما كان المضيع والثانى كان المنقذ. وهذه جملة لا يكفى لتفسيرها تحبير مئات صفحات الصحف. ضياع مقابل إنقاذ. منقذ مقابل مضيع.

المسئولية الوطنية تحتم علينا ألا ندخل الناس فى مداخل وهمية ومتاهات أشبه بمتاهات الأطفال فى حدائق التسلية على حساب أجندة وطنية لبلد يواجه مشكلات مصيرية من نوعية “نكون او لا نكون”. الأجندة الإعلامية يجب ان تأخذ فى الاعتبار أولويات وطن مازال فى نقاهة بعد ثلاثة أعوام من الثورة. ولسنا وحدنا فى هذا. ففى بريطانيا أو أمريكا أو روسيا تجد الأخبار الرئيسية ربما هى بذاتها التى تتقدم نشرات الأخبار وصفحات الصحف، ويكون الفارق بين مئات المحطات التليفزيونية هو طريقة التناول وزاوية التحليل والعمق أو السطحية.

فكرة أن مصر تحتاج الى نقد مسرحى لا تحليل سياسى هى إسهامى فى محاولة فرز الحقيقة من الغش فى مشهد سياسى اختلطت فيه الأمور، وأحيانا من أجل خروج آمن لفرد نخرج معه وطنا من الجغرافيا والتاريخ، ونحن نصفق فى نشوة فى واحدة من أهم عروض مسرح العبث.

التعليقات