كتاب 11
نحو «الثورة»
الثورة لغة قبل أن تكون فعلا، وللثورة قواعدها مثلها مثل قواعد اللغة تماما، فيها أفعال ناقصة وأفعال معتلة الآخر، وفيها حروف مقاربة يمكنها أن تفسر لنا حالنا الآن، أو على الأقل لماذا نحن هنا؟.
أحاول فى هذا المقال أن أقرأ نحو الثورة من خلال إسقاطات لغوية كنوع من التمرين الذهنى لى وللقارئ معا، خصوصا بعد أن عجزت التفسيرات الأخرى لتقول لنا كيف وصلنا إلى هنا؟ قراءة الثورات العربية بأدوات النحو والقواعد التى تحكم لغتنا قد تكون مفيدة. كتبت فى السابق عن الثورة من منظور العمران، وقلت إن الثورة فى مصر مثلا لم تكن ثورة الفيسبوك، بل كانت ثورة الخديوى اسماعيل. وفسرت فى مقال فى هذه الصحيفة وقلت إن كل الميادين المصرية التى كانت تستوعب الالاف من البشر والتى أطلقنا عليها جوازا مليونيات لم تكن إلا ميادين الخديو. إذ لم يفتح فى مصر ميدان واحد يمكن اعتباره مساحة للحرية يستوعب مليونية إلا ميادين الخديو. معمار الحرية الذى رسمه المعمارى الفرنسى أوسمان ومعه لانفا على غرار باريس المتمثل فى وسط البلد او القاهرة الخديوية، وميدان الإسماعيلية الذى سمى باسم الخديو اسماعيل ثم اصبح فيما بعد ميدان التحرير الذى اصبح رمز الثورة فى كل مكان، هو المعمار الذى أدى لنجاح الثورة وليس الفيسبوك. الثورة قامت فى ميادين الخديوى فى الاسكندرية فى ميدان القائد إبراهيم وفى ميدان التحرير (الإسماعيلية سابقا)، وامتدت من التحرير الى كوبرى قصر النيل الذى بدأ إنشاؤه ايضا فى عهد للخديوى اسماعيل. حتى عبدالناصر كان يخطب فى تلك الميادين سواء فى ميدان الإسماعيلية أو فى ميدان عابدين. تلك هى المساحات التى استوعبت الجماهير على الأرض وليس العالم الافتراضى لتويتر وفيسبوك.
فى هذا المقال أجرب منظور النحو واللغة لا منظور العمران، فربما تنفتح أمامنا كوة أو طاقة نور تساعدنا على فهم ما يدور حولنا.
الثورات المصرية فيها أفعال مقاربة وأفعال متعدية وأفعال لازمة، ولكن تبقى فى المقام الأول، رغم ما باعد بينها وبين أهدافها المنشودة كالحرية والعيش والعدالة الاجتماعية هى مقاربة للثورة وليست ثورة. فالثورة تحدث فى الرأس أولا وفى السياق الاجتماعى وفى النسق الثقافى قبل أن تحدث فى المجال السياسي، وهذا ما ساعد على نجاح ثورات أوروبا الشرقية التى حسمت فيها قضايا مثل دور المرأة فى المجتمع أو علاقة الدين بالدولة، تلك الأمور الأولية أو اللبنات الأولى للثورات كانت محسومة هناك فى أوروبا الشرقية، بينما هى باقية عندنا مصدر تشويش اساسى على فعل الثورة. لذا يمكننا القول إنها قاربت أو أوشكت أو كادت تكون ثورة. كل ما حصلنا عليه بعد ثلاثة أعوام من الثورة هى مجموعة أفعال للمقاربة. ويرى النحاة أفعال المقاربة على أنها أفعال ناقصة، ك – قارب، وأوشك، وكاد. ويدعى بعضنا أن الثورة لم تكن فعلا لازما بل كانت فعلا متعدياً لمفعول واحد مرة عندما اسقطت نظام مبارك، أو متعدية لمفعولين عندما اسقطت نظامى مبارك فى 11 فبراير 2011 ونظام مرسى والإخوان فى يوليو 2013. ورغم هذه القدرة العجيبة إلا أن الثورة بقيت فعلا ناقصا سواء تعدى لمفعول واحد أو لمفعولين. بعد مرور ثلاث سنوات على انطلاق شرارة الثورة لم تتعد الثورة فى مصر (وأدعى فى بقية بلدان ما سمى بالربيع العربى) لم تتعد كونها أفعال مقاربة، كادت تجلب الديمقراطية وأوشكت على تحقيق العدالة وقاربت أن تكون ثورة اجتماعية، لكنها فقط كادت. بالإنجليزية almost revolution.
الثورة كادت تنجح لو لم يفعل الثوار ما فعله المسلمون فى موقعة أحد عندما تركوا جبل أحد وبهرتهم الغنائم وبعدها خسروا الحرب. كادت موقعة احد ان تسجل للمسلمين نصرا لولا الطمع، وكادت ثورة يناير تنجح لولا جشع الإخوان ومن لف لفهم فى فندق الفير مونت او عصر ليمونا او كاد.
اليوم نفعل نفس أفعال المقاربة بإصرارنا على ان الثورة هى موضوع غنائم او إحلال وتجديد للنخب. فنسكن شباب الثورة الأطهار بدل فاسدى نظام مبارك او خونة نظام الإخوان. ولم نر من حولنا ان البناء الاجتماعى والسياسى قد انهار، وأن المطلوب هو بناء جديد، معمار جديد. الثورة كانت على مشارف أن تكون دولة أوشكت على الظهور إلى العلن. لكن الأفعال الناقصة للبعض والمتعدية على الثورة وعلى رغبات الشعب، ودقة النقص عند البعض ممن خانوا مبادئ الثورة هى التى أوصلتنا الى أفعال المقاربة، والتى أصبحت أفعال شقاق لا أفعال تقارب او مقاربة. فقد شقت جماعة الإخوان الصف او كادت لولا تدخل الجيش فى 30 يونيو لصالح هذا الشعب الذى لم يكن التاريخ الحديث رءوفا به.
نحو الثورة يتطلب فهما للقواعد. الثورة حتى الآن تعانى من حروف علة وحروف جر وكثير من صيغ التعجب والعجائب والنصب والاحتيال. وكلها باسم الثورة. القواعد المطروحة حتى الآن يختلف عليها النحاة وتختلف عليها بعض فئات المجتمع. مرجعية القواعد فى كثير من اللغات هى تقعيد للغة قائمة، اى ان النحو يخرج من اللغة ومن الثقافة ذاتها لا نكتب النحو ثم نؤلف لغة تناسبه. النظام الجديد لابد ان يكون متسقا مع القيم المصرية قديمها وحديثها، فنحن مجتمع ماعت آلهة العدل عند قدماء المصريين والتى يرمز لها بالريشة والتى توضع على كفة الميزان وعلى الكفة الاخرى قلب المتوفى كى يوفه الله حقه. قامت الثورة فى يناير وبعدها بعامين فى يونيو لأن العدل كان غائبا. فلا الريشة هى الريشة ولا الميزان هو الميزان. اختلت القواعد فخرج الناس إلى الشوارع ولا تظنها المرة الاخيرة، ففى كل مرة سيختل فيها الميزان او تبدل الريشة بريشة اخرى سيخرج الناس.
كادت تكون وأوشكت ان تنجح ولكنها افعالنا الناقصة.
لكى ننتقل من حالة أفعال المقاربة من كادت تكون ثورة أو أوشكت على النجاح، لابد من النظر مليا لحروف ومواضع العلة فيما حدث خلال الأعوام الثلاثة الفائتة. لابد ان نجمع شتات هذا الوطن جمع مذكر ومؤنث سالم لا جمع تكسير. الإخوان يمارسون جمع تكسير العظام فى الشوارع كل يوم وكل ذلك لأننا لم نتحسب منذ البداية لحروف العلة والافعال الناقصة من قبل الإخوان ومن قبل قلة قليلة ظنت ان الثورة كتبت باسمها. أفعال متعدية لمفعول واحد واحيانا لمفعولين، بل متعدية على مجتمع بأسره لصالح أجندات أخري. أفعال لا يمكن أن تكون إلا ناقصة، وهى السبب الرئيسى لما نحن فيه الآن.