أفضل المقالات في الصحف العربية

10:52 صباحًا EET

«هُوجَم» غولن و«آك» اردوغان

 كان الأسبوع الماضي ساحة لمواجهة كانت تمور تحت السطح بين جهتين متحالفتين تمثلان الإسلام السياسي في تركيا؛ الأولى: جماعة فتح الله غولن، أو «هُوجَم»، أي: أستاذي وسيدي. والثانية: رجب طيب اردوغان رئيس الحكومة وحزب العدالة والتنمية، الذي من تسمياته «آك»، التي تعني أبيض ونظيف.

جماعة غولن هي جماعة صوفية اجتماعية مدنية منظمة ومنتشرة داخل تركيا وخارجها، وقد قدمت نفسها كامتداد لحركة نور الدين سعيد النورسي والرموز الصوفية في التراث الإسلامي، وزعيمها غولن قدم نفسه كمنتسب لآل البيت وقطب صوفي ذي كشوفات وأحوال، وهي كما تنشط في شؤون التعليم ونشر المدارس التابعة لها، فهي لا تخفي طموحاتها السياسية، وقد تعرض قائدها لمضايقات مستمرة عبر سيرته الطويلة، حتى انتهى به المطاف في ولاية «بنسلفانيا» الأميركية، يدير من هناك إمبراطوريته الدينية السياسية ذات الموارد المالية الهائلة والمؤسسات الإعلامية المتعددة.

أما اردوغان وحزبه والتيار الذي يمثله فهو أكثر شهرة في العالم العربي، حيث جرى تمجيده على مدى سنوات طويلة من قبل تيارات الإسلام السياسي العربية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين ورموزها وأتباعها، حتى من قبل زعامته السياسية التي بدأت عمليا 2002، وقد زاد ذلك التمجيد بعد ما كان يُعرف بالربيع العربي، بوصفه يقدم النموذج المنفتح للإسلام السياسي المقبول غربيا. ولقد كان مثيرا كعادته حين قدم نصائح «علمانية» لأحزاب «الإخوان» في تونس ومصر، التي تبين بعد 30 يونيو في مصر أنه لا يؤمن بها فعليا، وهو أقرب إلى التصور التقليدي لأدبيات الإخوان المسلمين لطبيعة السلطة، ولكن ظروف تركيا وإرثها العلماني تمنعه.

مع أن تيار اردوغان حظي، ولمدة طويلة، بتأييد من فتح الله غولن ودعم من جماعته، فإن ثمة فروقا بين الطرفين. منها أولا: أن جماعة غولن تركز بالأساس على استهداف واستقطاب الأتراك داخل تركيا وفي أوساط الأقليات التركية في الغرب، وحيثما وجدت، بينما يسعى اردوغان على طريقة الإخوان المسلمين لاستهداف الأمة الإسلامية وبناء نموذج للإسلام السياسي قابل للتصدير.

الثاني: يرى غولن أن امتداد تركيا الطبيعي هو في آسيا الوسطى ودولها التي تحتوي على أقليات تركية، وقد سببت بعض تصريحاته تجاه تلك الأقليات أزمات سياسية بين الدولة التركية وتلك الدول، بينما يرى اردوغان أن امتداد تركيا الطبيعي يكمن في الدول العربية وإيران، ومن هنا ينخرط بحماسة في ملفات الدول العربية، بل يعادي الدولة المصرية تماهيا مع جماعة الإخوان.

الثالث: يعتقد غولن أن «تطبيق الشريعة» غالبه ينطلق من الأفراد والمجتمعات، وأقله هو ما يتعلق بطبيعة الدولة، في حين لا يرى اردوغان أي معنى لتطبيق الشريعة إلا من خلال السلطة والحكم.

الخلاف الحادّ الذي صعد للسطح في المشهد التركي بين الطرفين أحدث موجات من ردود الفعل القوية في الداخل التركي، وصلت تأثيراتها إلى البورصة وسعر العملة، وهي تهدد حزب اردوغان في الانتخابات المقبلة، في مارس (آذار) 2014، وقد اتهم قيادات شرطية قامت باعتقالات واسعة لعدد من أبناء وزراء مهمين في حكومته بتهم الفساد والرشوة، وبأنها قيادات تابعة لجماعة غولن، وأنها تدير مؤامرة ضد حزبه، في الوقت الذي فيه نفت جماعة غولن أي دور لها فيما جرى.

الشيطان يكمن في التفاصيل، والعلم مثله، فكما أن شمول المعرفة للأصول والكليات مفيد، فإن الإحاطة بطبيعة التفاصيل نافعة، وهو الوضع الذي تثيره هذه المواجهة بين طرفي الإسلام السياسي في تركيا، وهذه الإحاطة بالتفاصيل تمنح ثراء معرفيا، وتمكّن من فهم سياسي أكثر دقة لبعض المشاهد التي تبدو لأول وهلة متشابهة، ولبعض الجماعات التي تبدو متحالفة.

بالتأكيد ثمة مشتركات كبرى بين جميع تيارات الإسلام السياسي وجماعاته وأحزابه أينما وجدوا وكيفما تجلّوا، ولكن أيضا هناك مفترقات لا تقل أهمية عن المشتركات، والوعي بالجانبين يمنح قدرة أكبر على صواب التحليل والرؤية.

مثال آخر على ذلك هو ما جرى بمصر بعد 2011، حيث بدت جماعات الإسلام السياسي، كجماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية، متحالفة كما لم تكن من قبل، وهذا صحيح، وفازت بانتخابات نيابية ورئاسية، بناء على ذلك التحالف، ولكن ذلك لم يلغِ أبدا نقاط الاختلاف التي تعرضت لامتحانات عسيرة، ويمكن رصد ذلك في مشهدين مهمين؛ الأول، وصول جماعة الإخوان المسلمين لسدة الحكم وشروعهم في سياسة الاستحواذ والهيمنة على الدولة، التي سعت لإقصاء كل أطياف الشعب المصري وطال جزء من ذلك الجماعات السلفية وممثلها السياسي الأكبر «حزب النور». الثاني، بعد 30 يونيو (حزيران) و3 يوليو (تموز) 2013، حيث اختارت جماعة الإخوان المسلمين التصعيد والرفض والتخريب والإرهاب طريقا واحدا لمواجهة الأوضاع الجديدة، ودخلت الجماعة وقياداتها في «حالة إنكار» جعلت الرئيس المعزول مرسي يعتقد من سجنه أنه لم يزل الرئيس الشرعي لمصر، بينما اتخذ «حزب النور» طريقا معاكسا تماما، فانخرط في العلمية الانتقالية من البداية، ووافق على «خارطة الطريق»، وشارك في لجنة تعديل الدستور بفعالية ومرونة، وهو أبدى براغماتية وواقعية سياسية – نسبية – أوضحت تفوّقه في الوعي والرؤية السياسية على جماعة عتيدة كجماعة الإخوان المسلمين.

ظهور مثل هذه الخلافات للسطح يمنح الباحث والمتابع قدرة أكبر على المعرفة والتحليل وبناء الرؤية، ولكنّ ظهورها مربك بشكل كبير لرموز وأتباع الإسلام السياسي، خاصة في دول الخليج، ولنأخذ ثلاثة أمثلة سريعة؛ الأول، الخلاف بين جماعة الإخوان المسلمين وحزب النور السلفي بعد 30 يونيو، حيث انحاز أولئك الأتباع لـ«الإخوان»، وهاجموا بكل ضراوة الحزب السلفي. الثاني: الخلاف بين تنظيمات العنف الديني بسوريا؛ «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش»، بحيث اضطربوا وافترقوا، ولجأ بعضهم لإسداء النصائح حول توحيد الصفوف هربا من اتخاذ موقف أو إدانة إرهاب. الثالث: الخلاف بين غولن واردوغان بحيث لم يزالوا يدبجون المدائح في الطرفين، بوصفهما شيئا واحدا، وهذا الخلاف الحالي سيسبب لهم ارتباكا كبيرا، وسيبقون في حيرة ودوّامة، وسيفضل بعضهم السكوت وعدم التعليق.

أخيرا، يقول خلدون النقيب: «يُعتبر مصطلح (القوة الاجتماعية) المصطلح المركزي لكل علوم السياسة، ويُستعمل للدلالة على مقدرة شخص أو مجموعة من الأشخاص على تحوير سلوك الآخرين وتعديله لتحقيق نتائج مقصودة أو متوقعة، حتى ولو كان ذلك خلافا لرغبتهم أو على الرغم من مقاومتهم». يمتلك كل من غولن واردوغان «قوة اجتماعية» تدعمه، ومفيد رؤية نتائج اصطدام هاتين القوتين.

التعليقات