مصر الكبرى
الفتوى .. إدارة المرور .. وحلاق القرية
هذا المقال منشور عام 2004 والحال على ما عليه لم يتغير
لماذا لا يلتزم العربي بما تدرب عليه من مهنة، ولماذا يسعى دائماً إلى مهنة مصاحبة؟ لماذا نحن رافضون العمل في ما نعرف، وعيوننا دائما على ما لا نعرف؟ ظاهرة محيرة تتجلى في أوضح صورها في حالة الاسلام السياسي، إذ الملاحظ ان كل قيادات الجماعات الاسلامية ومرجعياتها ممن درسوا الطب والهندسة والتجارة والفيزياء، رجال تركوا ما يعرفون وامتهنوا موضوع الفتوى كبديل. كيف تبرر المجتمعات والدول ما أنفقته من مال على رجل كي يصبح طبيباً أو مهندساً، ثم خدعهم في منتصف الطريق، وتخلى عن مهنة الطب، وأعلن أنه مجاهد وصاحب فتوى بعد أن قرأ كتابين لابن كثير وابن حجر العسقلاني؟ طبعاً قلة منهم من قرأ طبقات ابن سعد أو نهج البلاغة، لكنهم نجحوا في اقناعنا بأن الجسم السياسي والاجتماعي أشبه بالجسم البشري، واعملوا فيه نفس المشارط وذات الدواء بعد أن شخصوا ذات العلل. بالطبع هناك خدعة بصرية في الموضوع، ذلك لأن الطبيب اذا أعمل مشارطه في اجساد البشر وفشل، فهناك من يحاسبه من أهل المهنة وربما يرفع عليه قضية malpractice أو ممارسة رديئة للمهنة أودت بحياة المريض، ولكن اذا مارس نفس الشيء على المجتمعات السياسية وأضر بجسدها ضرراً بالغاً، لا توجد هناك نقابات تحاسبه. حين يصيب أهل الفتوى الجدد المجتمعات في مقتل، فهم هنا يمارسون مهنة بدون ترخيص، ولكنه مرض «حلاق القرية»!
حالة حلاق القرية هي سبب هروبي من عالمي في الصعيد، حيث يمارس الحلاق اضافة لعمله، خلع الاسنان والختان وأموراً اخرى، لا يرضى ان يوصف بأنه حلاق، بل يريد ان يشار إليه إلى أنه دكتور. ورغم هروبي من ذلك العالم، إلا انه يطل علينا كل صباح بصور متعددة، اذ لا يختلف الحركي الاسلامي الذي ينطلق من تدريب طبي أو هندسي ثم يتخذ الوعظ والارشاد والفتوى كمهنة عن حلاق القرية، فأنت تجد من هو خريج كلية التجارة يطل عليك من الشاشة واعظا، أو داعية كما يسمونهم الآن، وفي اعتقادي ان كلمة داعية هنا ليست مفرد دعاة وانما هي مفرد أدعياء، أي الذين يدعون ما ليس فيهم، ويتحدثون في ما لا يعرفون. حدثني احد الأصدقاء بأنه كان يبحث عن كاتب للصفحة الدينية، فرشح له أحدهم واحداً قال انه كاتب جهبذ في الدين، لكلامه حلاوة، وعلى لسانه طلاوة، فلما سأل محدثي صاحبنا عن وظيفة الكاتب المزعوم، جاء الرد المفاجأة، عندما أخبره صاحبنا بأن الكاتب يعمل مدير مبيعات بشركة الأدوية في واحدة من بلاد العرب. ترى ما دخلُ مدير مبيعات الأدوية في الإفتاء؟ ولكنها حالة حلاق القرية كما ذكرت. ظاهرة الدعاة الجدد، الذين قرر شخص ما ان يضعهم على الشاشة في واحدة من التلفزيونات العربية ويفرضهم علينا كرجال إفتاء، تستحق النقاش، وهنا لا أدعو الى نقاش عميق، كل ما ادعو له هو ان نعرف أولاً من هذا الشخص؟ اين تدرب على مهنته الجديدة؟ وكم من الكتب المحكمة ألف أو كتب؟ هل هو دخيل على مهنة الفتوى أم أنه حلاق ويمارس الختان وخلع الاسنان كعمل اضافي أو من باب الوجاهة الاجتماعية؟! الناظر الى كل الحركيين ممن يتصدرون للفتوى الآن في عالمنا العربي، لا تفوته ملاحظة ان سيد قطب تخرج في كلية دار العلوم، كلية لا يعرف عنها التقعيد لعلوم الشرع، أو فقه المذاهب، أو اسس العقيدة، أما بعض قادة الجهاد مثل عبد السلام فرج، صاحب الفريضة الغائبة، فكان مهندساً زراعياً، وفؤاد الدواليبي كان نجاراً، وناجح ابراهيم كان طبيباً، وعاصم عبد الماجد كان مهندساً، وعبود الزمر كان عسكرياً، حتى نصل الى حالة ايمن الظواهري، الطبيب، وأسامة بن لادن، خريج ادارة الأعمال أو التجارة، الى آخر هذه القائمة. واتذكر انني كنت في ذات الجامعة مع ناجح ابراهيم في اسيوط، وكان الجميع يشهد له بالذكاء والنبوغ كطبيب، ولو اهتم بنفسه في مهنته لربما نبغ كحالة أحمد زويل في الفيزياء وحصل على نوبل، ولكنه قرر اتخاذ الفتوى طريقاً؟! تُرى لماذا لم يجاهد في ما يعرف، وقرر أن يجاهد في ما لا يعرف؟ ترى ماذا لو اتخذ أحمد زويل نفس الطريق، وفضل نموذج حلاق القرية والفتوى على نموذج العلم؟! هل كنا سنعرف عن الفيمتو ثانية؟ هناك كثيرون من طلاب الفيزياء كأحمد زويل حاصلون على درجة الدكتوراه ثم اصبحوا في المنافي قادة حركات اسلامية. كنت اعرف طبيباً خليجيا متميزاً تخصص في الأوعية الدموية وكان له مستقبل واعد كطبيب يفيد المسلمين الفقراء ويساعدهم في التغلب على أمراضهم، ولكنه قرر أن يحترف السياسة والفتوى؟! لماذا ترك هذا الانسان المتميز موهبته التي حباه الله إياها، وقرر ممارسة شيء لا يجيده؟ هل هو خوف من الفشل، أم بحث عن دور اجتماعي، أم ماذا؟ هو ذاته يتفق معي في ان هذا أمر شاذ يجب فتح حوار حوله. هل الاجابة عن سؤال حلاق القرية هي أننا ربطنا معايير النجاح بشيء آخر غير الذي نعرفه، فنحاسب الطبيب على معرفته بعدد من الاحاديث بدلاً من محاسبته على فهمه للطب؟ هل غياب المعايير الحاكمة لمزاولة المهن على اساس سليم هو المسؤول الرئيسي هنا؟ ولماذا يريد مدير مبيعات الأدوية أن يكتب في صفحة الدين؟! لدي حل بسيط لهذه المسألة، وهو لماذا لا نعامل الدعاة واصحاب الفتاوى الجدد، كما تعامل إدارة المرور السائقين؟ في ظني أنه لو أوجدنا مؤسسة تحكم ممارسة الفتوى كما تحكم ادارة المرور قواعد قيادة السيارة، لتفادينا كثيراً حوادث السير التي لا تقتل أفرادا وإنما تصيب المجتمعات في مقتل. فعلى سبيل المثال، لكل انسان حق الدعوة، تماما مثلما له الحق في قيادة السيارة، ولكنه لا بد ان يمر بمجموعة اختبارات تجنبنا مخاطر ما قد يصدره من فتاوى، فمثلاً من حفظ القرآن كله وكذلك أمهات الأحاديث المتواترة، يحق له أن يمارس الوعظ في بيته وعائلته أولاً كنوع من التدريب، وكذلك يحق له أن يلتحي اذا أراد. بعد عام يحق له أن يتقدم بطلب لممارسة الدعوة في الحي أو الحارة أو القرية، مثله في ذلك مثل من يريد رخصة لقيادة سيارة ملاكي داخل شوارع المدينة. أول علامات تؤهله للقيام بالتقدم بهذا الطلب هو نجاحه في اصلاح أهل بيته، اذ لا يصح ان يكذبك الاقربون ويرفضون دعوتك ثم تمارسها على من هم بالخارج. اذا ما نجح صاحبنا في هذا الاختبار، فله حق التقدم لامتحان الوعظ في المحيط القريب، أو الحصول على رخصة محدودة. ثم تقيّم تجربته بعد عام من لجنة مرور الفتوى يسأل فيها عما اذا كان ما زال حافظاً للقرآن وكذلك الحديث. واذا ما اكتشفت اللجنة انه قام بمخالفة أو اثنتين في تفسير الآيات أو الاحاديث، أعطي انذاراً علنياً، معه يقصر الواعظ مثلاً لحيته بمقدار اثنين من السنتميترات، حتى يكون ظاهراً للعيان ان هذا واعظ مخالف، ومسجل لدى ادارة مرور الدين. اذا ما تكرر هذا الخطأ أربع مرات تسحب منه رخصة الوعظ لمدة عام حتى يصلح من حاله. أما من يريد ان يصبح واعظاً ومفتياً خارج حدود المدينة، فهو اشبه برجل يحاول ان يحول رخصة القيادة الخاصة به من رخصة ملاكي لقيادة سيارته الخاصة، والتي تقابل الدعوة داخل بيته في حالة الواعظ، الى رخصة نقل عام، تمنحه الحركة على الطريق السريع وقيادة سيارات النقل الكبيرة. هذه الحالة اشبه كثيرا بقادة الحركات الاسلامية الجدد، الذين يقومون بقيادة شاحنات كبرى محملة بمواد قابلة للاشتعال على الطريق السريع، (يعادلها الافتاء عبر شاشات الفضائيات الكبرى) يسوقونها بدون رخصة، مثلهم في ذلك مثل حلاق القرية الذي يمارس الختان فيقطع الاعضاء احيانا، ولكنهم اكثر منه خطراً، لان شاحناتهم هذه قابلة للارتطام بأقرب رصيف وقابلة للاشتعال الذي قد يحرق المجتمع بأكمله، خصوصا انها فتاوى توجه من فضائيات تدخل كل البيوت. ممارس الفتوى من رواد الفضاء الجدد دونما امتحان محكم ودونما اصدار ترخيص بالفتوى لا يقبل المحاباة والمجاملة، فهو أخطر بكثير مما لو قاد شاحنات الغاز على الطريق السريع ممن لم يجتازوا اختبارات المرور. من فضلكم نظموا ادارة مرور الدين ولا تطلقوا علينا شاحنات نعرف مسبقا انها ستنفجر في بيوتنا.