مصر الكبرى
جغرافيا الصوت العالي!
الصوت العالي بدا مسيطرا على إعلامنا العربي المرئي منه والمسموع بشكل مزعج ولافت، فمن أين جاء هذا الصوت العالي في حضارة من المفترض أن يكون فيها الصوت الخفيض المشذب وصية دينية؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا أن نتأمل جغرافيا الصوت في بلداننا العربية وما طرأ عليها من تغيرات. أهل الصحراء مثلا يحتاجون إلى الصوت العالي الوظيفي، أي أن تنادي على أحد بعيد كي يسمعك، ومع ذلك عندما تجلس إلى البدو في الأماكن القريبة حول النار لاحتساء القهوة تجد أن صوت البدوي خفيض، أي أن البدوي قادر على إدراك تغير المسافات ويعدل صوته بناء على ذلك. أسماء البدو مثلا بها مدّ ضروري يسمح بالنداء عن بُعد مثل سلمان وحمدان.. فيمكنك النداء بأن تقول يا سلماااااااااااان، ويا حمدااااااااااااااااااان. أما أسماء الحضر فهي قصيرة وفيها نوع من الهمس، مثل سمير وحسن وسحر… إلخ. لذا يبدو لي أن اسما كاسم عنترة مثلا لا يمكن أن يكون اسما صحراويا، فهو اسم قصير في حروفه وليس فيه مد النداء، اسم للأماكن الضيقة، رغم ما نقوله عن شاعرنا الكبير عنترة بن شداد، وتفسيري هو أن الرقيق، وخصوصا خدم البيوت كانوا يعيشون في جغرافيا الأماكن المغلقة، لذا ليس غريبا أن يكون عنترة هو اسم الرقيق، بينما الأب الحر يدعى شداااااااااااااااااااد، اسم قابل للمد وللنداء الصحراوي. ولكن لهذه الفكرة موضوع آخر وحديث آخر.
النقطة الأساسية هي محاولة تفسير الضوضاء التي تسيطر على إعلامنا من مدرسة الصوت العالي أو ما يقال عنه في الحواري الشعبية عندما تصرخ المرأة إنها «ترقع بالصوت الحياني»، فلماذا ورغم القرب المكاني في الاستوديوهات المكيفة ما زال بين إعلاميينا من «يرقع بالصوت»، حتى أصبحت هذه الصفة إحدى علاماته المميزة؟
في الأحياء الشعبية في حواضر مزدحمة مثل القاهرة تصحو من النوم على أصوات باعة الفول، والذين يضربون على أنابيب الغاز، والذين ينادون على المخلفات المنزلية من الروبابيكيا وخلافه، وإللا جوارك محل ميكانيكي موتوسيكلات، ومحل مسجلات وأشرطة دينية وأغانٍ شعبية، تختلط كل هذه الأصوات لتصنع كوكتيلا من الضوضاء الملوثة، فلا تستطيع أن تصل بصوتك إلى من تحب إلا بالصوت العالي، وحتى عندما يعلو صوتك تظل غير متأكد أن صوتك قد سمع، أو أن أحدا سمع جملتك كاملة، أو أنك ستسمع جملته كاملة، إن رد عليك. الرسالة مشوشة من المرسل ومن المتلقي ومن السياق بلغة الإعلام أو من الجو المحيط بلغة العوام.
بعض الإخوة مقدمي برامج التلفزيون والأخوات مقدمات البرامج أو من يشارك معهم في الندوات الحوارية على غرار «الاتجاه المعاكس» ومن على شاكلته، يأتون بالحارة الشعبية وأصواتها معهم إلى الاستوديو، غير مدركين أنهم انتقلوا من عالم ضجيج الحارة وباعة الفول وأصوات «الطرقعة» في محل الواد بلية الميكانيكي، إلى هدوء الاستوديو في مدينة الإنتاج الإعلامي، الحارة وضوضاؤها ما زالت ساكنة رؤوسهم كما تسكن الشياطين الأجساد وتتملك منها. لذا يتحدثون بصوت عالٍ مع ضيوفهم، ويعاد إنتاج أصوات المناطق العشوائية على الشاشة.
الحل يكمن في أن تأتي المحطات الفضائية بمذيعيها ومقدمي برامجها وتسكنهم على الأقل ولمدة عام قبل الظهور على الهواء في أحياء هادئة كالزمالك والمعادي مثلا، أو كما كانت هذه الأحياء في السابق، حتى يتعودوا الهدوء أو حتى يعاد تأهيلهم لتخرج من رؤوسهم وعقولهم شياطين الحارات التي تسودها الأصوات العالية والبلطجة، وبهذا يهدأ أصحابنا قليلا، فينخفض الصوت وتقل البلطجة الصوتية على الهواء. طبعا المشكلة كل المشكلة عندما يكون صاحب الفضائية «ذاته»، كما يقول الإخوة في السودان، قادما من ذات المناطق العشوائية، فلا مناص هنا من إنتاج عالم الواد بلية، وصوت بتاع الفول والروبابيكيا، إلكترونيا وعلى الهواء مباشرة، فيختلط الحابل بالنابل، وتتزاحم الأصوات بعضها فوق بعض، صوت موتور الموتوسيكل مع كلاكس التاكسي، مع صراخ النسوان، مع طرق على الحلل والأواني غير المستطرقة، هيصة كده، أنت سامعني دلوقتي؟