10:00 مساءً EET

(خادم الحرمين الشريفين): اللقب.. والنهوض الناجز بمسؤولياته

لهجت ألسنة مئات الألوف من الحجاج بمعاني الارتياح والمناخ الآمن وتيسير الحركة ودقة التنظيم وعزائم الحزم والرعاية الصحية.. إلى غير ذلك مما تمتع به الحجاج وهم يؤدون مناسكهم لهذا العام.

ولئن انسابت هذه الخدمات انسيابا في كل خطوة وكل مكان، فإن وراء هذا الانسياب: تخطيطا وتدبيرا تمثلا في (تطبيق ميداني): يراه الناس ويعايشونه مباشرة.

وهذه ظاهرة مفرحة في أزمنة: اعتلت فيها أمة الإسلام، واعتل فيها كل شيء تقريبا.

وهي ظاهرة تستحق التأمل والبسط والتأصيل.

لقد جعل الله مكة المكرمة بلدا حراما منذ خلق السموات والأرض: بنص حديث نبوي شريف رواه البخاري ومسلم.. وإذا استأنسنا بالنظرية الراجحة عند جمهور الفيزيائيين، فإننا نعرف أن بداية خلق السموات والأرض كانت قبل 15 مليار سنة.. ففي تلك اللحظة القصية البهية، حدث ما عرف عند الفيزيائيين بـ(الانفجار العظيم).. وننبه إلى أن هذا مجرد استئناس، وإلا فإن النبأ اليقين هو الذي نبأنا به النبي محمد الذي لا ينطق عن الهوى.

ذلك عن (الإرادة الإلهية الكونية).. أما عن (الجهد البشري الإيماني)، فهو ذلك الذي تمثل في (خدمة بيت الله) على أيدي المؤمنين بالله، الجاهرين بتوحيده – جل ثناؤه – المطهرين للبيت العتيق من كل ما لا يليق بجلاله وشرفه وطهارته – معنويا وماديا، المهيئين أكنافه للطائفين والقائمين والركع السجود.

وكان أول الخادمين لبيت الله الحرام هو شيخ الملة الحنيفية: خليل الرحمن، أبو الأنبياء إبراهيم صلى الله عليه وسلم. فقد خدمه بالبناء من حيث رفع قواعده، وخدمه بالصدع بالتوحيد فيه وحوله، وخدمه بتهيئته لقاصديه: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).. ويلحظ – ها هنا – أن بناء البيت وتهيئته قد سبقت الأذان في الناس بالحج، مما يبرهن على التلازم الوثيق بين خدمة البيت وأداء فريضة الحج.

ولقد توالت خدمات بيت الله الحرام في مختلف العصور.. فقبل الإسلام، شارك النبي محمد – قبل البعث – في وضع الحجر الأسود في مكانه، حيث اختاره الناس (حكما) في نزاع مرير بين عشائر مكة: أيها يظفر بشرف وضع الحجر في مكانه.. وكان من كمال فطنة محمد ورجحان عقله: أنه طلب ثوبا فوضع الحجر في وسطه ثم نادى رؤساء العشائر ليمسكوا جميعا بأطراف الثوب، حيث اشتركوا جميعا في رفع الحجر الأسود. وعندئذ وضعه الفطن الأمين الحكيم – صلى الله عليه وسلم – في مكانه الأصلي، وبذلك حسم النزاع برضا جميع العشائر أو فخوذ القبائل.. كما شارك النبي – قبل البعثة أيضا – في إعادة إعمار الكعبة إثر ذلك السيل العرم الذي اجتاحها، وكان ينقل الحجارة مع عمه العباس بن عبد المطلب.

وحين ابتعث – صلى الله عليه وآله وسلم: جهر بالتوحيد الخالص عند الكعبة فلقي من قومه الوثنيين ما لقي بسبب ذلك.. وعندما فتح مكة المكرمة باسم الله تعالى وطهر البيت من الأصنام المركومة فيه التي كانت تعد بالمئات: عزم على إصلاحات وتوسعات في الكعبة، لكنه امتنع عن ذلك بسبب قرب عهد القوم بالشرك.. فقد قال لعائشة – رضي الله عنها: ((لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين: بابا شرقيا، وبابا غربيا: بابا يدخلون منه، وبابا يخرجون منه، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة.. إن قومك قد قصرت بهم النفقة))..

وفي العهد الراشدي، حصلت توسعات لبيت الله الحرام على يدي عمر وعثمان – رضي الله عنهما، ثم تتابعت خدمات بيت الله الحرام في العهود الإسلامية المختلفة.

وحين ولي آل سعود ولاية الحرمين الشريفين، أخذت التوسعات: الكمية والنوعية تتوالى. فإذا استنطقنا حقائق الجغرافيا والعمران الحضاري، سمعناها تقول: حين انعقدت ولاية الحرمين الشريفين لآل سعود: كانت سعة الحرم المكي – مثلا – ثلاثين ألف متر مربع.. وفي العهد السعودي، قفزت معدلات التوسعة إلى ثلاثمائة وستة وخمسين ألف متر مربع، وذلك خلال عقود معدودة ثم تتابعت التوسعات على نحو فاخر باهر.

وبأمانة الاعتراف بهذه الحقيقة، وبخلق الوفاء لمن وفى لحرم الله بالخدمة المتزايدة المتصاعدة – بتوفيق الله من قبل ومن بعد.. بمقتضى هذين الخلقين: ينبغي الاعتراف الصدوق لآل سعود بهذه الخدمات الجليلة: اعترافا مقترنا بالشكر الجم لهم، وهو شكر يعد نوعا من توحيد الله عز وجل. فقد ربط حديث نبوي صحيح بين شكر الناس وشكر الله: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)).. فما من ملك سعودي تولى هذه المسؤولية إلا جعلها في مقدم أولوياته.. وأقرب مثال لذلك – زمنيا وموضوعيا – كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى حجاج بيت الله الحرام في عام 2010. فقد جاء في تلك الكلمة: ((منذ أن منّ الله على المملكة العربية السعودية وشرّفها بخدمة الحرمين الشريفين وهي تستشعر عظمة الأمانة، وتقدر حجم المسؤولية، وأهمية الاضطلاع بها بما يرضي الله عز وجل، محتسبة عند الله سبحانه وتعالى خدمة الحجاج والعمار والزوار لوجهه الكريم. ومن فضل فيضه العظيم. ولقد يسر الله لنا بعونه وتوفيقه القيام بتسيير السبل للحجيج، والعمل على توفير راحتهم. ونحن بعون الله وتوفيقه ماضون في ذلك بما مكننا سبحانه من قدرة ومقدرة)).

وتتأتى قيمة هذا الكلام من كونه تعبيرا عن (واقع فعلي) يعيشه الحجاج والعمار والزوار: واقع فعلي تطبيقي تمثل في صور عملية شتى منها:

أ – نقلة التطوير والتنظيم النوعي التي أنهت الزحام المميت عند الجمرات. ب – ونقلة الهندسة الحضارية في خدمة (زمزم) التي رصد لها الملك سبعمائة مليون ريال من ماله الخاص. ج – والنقلة النوعية التاريخية في المسعى. د – والنقلة النوعية التاريخية في توسعة المطاف: الجارية الآن. هـ – والتوسعة الهائلة الجميلة في المسجد النبوي الشريف… إلخ إلخ.

قد يختلف الناس مع النظام السعودي في هذا الأمر أو ذاك.. لا بأس. إذ الاختلاف في القضايا العامة إنما هو نوع من الحق في أن يكون لكل دولة وجهة نظرها، في هذه القضية أو تلك.

هذا صحيح، بيد أنه من الصحيح أيضا أنه ينبغي أن ينعقد (إجماع المسلمين) على حقيقة عبادية أخلاقية عمرانية لا يجوز الخلاف فيها: حقيقة (نجاح) آل سعود وعراقتهم وصدقهم وتفانيهم وبذلهم في خدمة الحرمين الشريفين.

وآل سعود ما لهم لا يتحملون هذه المسؤولية الشريفة وهم يعلمون:

أ – أن عظمة الخدمة تستمد من عظمة المخدوم، ولما كان ليس على كوكب الأرض مكان أعظم ولا أشرف من الحرمين فإنه ليست هناك خدمة أسمى ولا أشرف من خدمة الحرمين الشريفين.

ب – أن إعمار المساجد العادية دليل على صدق الإيمان بالله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ.. الآية).

فكيف بمن يعمر (المسجد الإمام) وهو المسجد الحرام، وأخاه المسجد النبوي؟

ومما يرتبط بهذه المعاني والمفاهيم: مسؤولية المملكة العربية السعودية تجاه الأمة الإسلامية وقضاياها، وهي مسؤولية تبدت – بوضوح – في كلمة الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى كبار حجاج هذا العام من قادة دول، ورؤساء بعثات حج، التي ألقاها بالنيابة عنه ولي العهد السعودي: الأمير سلمان بن عبد العزيز.

ولعلنا نعرض لما جاء فيها في قابل الأيام بعون الله وتوفيقه.

يا دعوة التوحيد هل لك مطفئ – رب يضيئك والعتيق يليك