مصر الكبرى
مصر: المرور مفتاح فهم السياسة
في مصر على الأقل، والأمر أيضا ينطبق على كل بلاد الثورات في العالم العربي، وبعد انتخاب الرئيس، هناك إحساس بأن العربة التي اسمها مصر ستعمل بكفاءة أفضل طالما غيرنا السائق، أي استبدلنا محمد حسني بمحمد مرسي، رغم أن مشكلة العربة المسماة مصر لم تكن فقط في السائق، فهناك مشكلة في موتور العربة القديمة المهترئة (مصر دولة فقيرة يصل مستوى دخل الفرد فيها إلى ما يقرب من ألف دولار سنويا) تليها مشكلة في الطرقات التي تمر فيها العربة (مصر تسير دون دستور واضح يحدد معالم الطريق) وتزداد المشاكل تعقيدا بمشكلة إشارات المرور الحاكمة للسير، وسلوك المواطنين ممن لا يريدون عبور الشارع عند الأماكن المخصصة لعبور المشاة فتراهم يدلفون في بحر الشارع دونما اكتراث بما يتسببون فيه من كوارث لأنفسهم ولغيرهم وهذا هو المقابل الموضوعي للسلوك العشوائي للنخبة في مصر وعقلية الزحام السابقة للثورة وعقلية الزحام المصاحبة للثورات بشكل عام).
أي أن المشكلة لم تكن مشكلة سائق بمفرده بل مشكلة سيارة ومشكلة المارة في الشارع، مشكلة نظام سياسي واجتماعي بمجمله لا أظنه يصلح للاستمرار في القرن الحادي والعشرين. ولكن – وأقوله بكل حزن وأسى – وحتى هذه اللحظة، تنظر مصر إلى المشكلة على أنها مشكلة سائق، وبتغيير السائق حسني مبارك وتسليم عجلة القيادة لمحمد مرسي فإن حال مصر سينصلح.
مصر اليوم في أزمة حقيقية نتيجة هذه الرؤية القاصرة للثورة والتي اختصرت التغيير في معنى تغيير السائق لا العربة ولا البيئة المحيطة، مصر الآن في أزمة لأن أقل مشاكل مصر كانت، ولا تزال، في السائق. المشكلة في مصر هي عدم الالتزام بقواعد المرور المعروفة عالميا بمعناها الحرفي، أي عدم قدرة مصر على حل مشكلة السير في المرور اليومي، أما المعنى الواسع والرمزي للأزمة فهو أكبر وأعمق، فالتغيير في مصر يعني تغييرا في قواعد اللعبة. يعني، ولكي نقرب الصورة، النظر لمشكلة السير من حيث عرض الشارع ومن حيث كمية التلوث الناتج عن عادم السيارة، واحترام إشارات المرور، وقبل هذا وذاك إلى أين تسير هذه السيارة وما وجهتها ونحو أي هدف تسير، وما هي القيم الحاكمة لعملية السير؟
ليس اختزالا أو ابتذالا لو قلت إن الثورة بالنسبة للمصريين اليوم هي مجرد تذكرة ليورو ديزني، أي أن هذه الثورة بالنسبة لعامة المصريين هي مجرد مرجيحة أو مجموعة مراجيح نركبها للحظات ثم ننزل ونعود إلى حيث بدأنا؟ أقول هذا لأن المصريين وحتى هذه اللحظة لم ينطقوا كلمة واحدة عن قيم الثورة، فالثورات قيم وليست مبادئ وأهدافا، هكذا كانت الثورة الفرنسية والأميركية من قبلها؛ هناك قيم عليا حاكمة للمجتمع الجديد تكتب في دستور أو وثيقة تحدد ملامح المجتمع الجديد وقيمه.
أما في مصر فنحن نريد أن نسير بذات القيم ولكن بقيادات جديدة. نفس المسرحية بممثلين جدد. معظم مجتمعات الثورات العربية تريد أن تركب قطار الثورة وليس مهماً إلى أين نذهب، المهم أننا في عملية الركوب، وهو المساوي في الحالة المصرية إلى الدخول في إجراءات، مثل انتخاب البرلمان أو انتخاب الرئيس دونما معرفة وظيفة هذا الرئيس ولا وظيفة البرلمان، وهما أمران يتسمان بالبساطة مقارنة بفكرة قيم الثورة. فالمهم لنا كمصريين هو أننا قد انخرطنا في العملية، وهذه قمة الفرحة عند العوام من الناس وقمة الإنجاز.
الحرية والمساواة والعيش في سعادة كانت هي قيم الثورتين الأميركية والفرنسية، أما ثورتنا حتى الآن فلا الحرية فيها قيمة ولا المساواة قيمة، فنحن ننظر للحرية بمعان تنافي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ونريد أن نكتب دستورا مقيدا للحرية لا مضيفا إليها.
الثورات التي لا تضيف جديدا للتراث الإنساني من حيث القيم الجديدة ليست ثورات بالمعنى الواسع للكلمة. الثورة تغيير في منظومة القيم الحاكمة للمجتمع أما ما نراه في مصر اليوم فهو أشبه بتدوير النفايات، قيم قديمة سيئة تتحول إلى الأسوأ بعد تدوير نفاياتها، وما قصة الشاب الذي قتله المتطرفون الدينيون في السويس إلا رمزية لتدوير نفايات النظام السابق من حيث القيم الحاكمة للمجتمع.
المشكلة في مصر ليست السائق، المشكلة في العربة المسماة مصر، من حيث قدرتها على الحركة إلى الأمام وبأي سرعة، وما حجم العادم أو التلوث الناتج عن حركة سيارة تدور بنفايات الأفكار كوقود محرك لها. المتابع للأفكار المتداولة في مصر إلا قليلا لا تفوته ملاحظة أن مصر لا تعاني من عجز في الميزانية المالية ولكن عجز في الأفكار، مصر ليست تحت خط الفقر ولكنها تحت خط الفكر، كما قال أحد الأصدقاء. الأفكار بنزين المجتمعات الذي يحرك العربة إلى الأمام، وسيارة مصر، على ما يبدو من نقاشات، خالية من أي بنزين يأخذنا ولو إلى محطة نستطيع أن نمون سيارتنا منها. مصر لو تركناها على هذا الحال ستبقى سيارة واقفة في الطريق تعطل حركة السير في الإقليم برمته وربما تعطل السير العالمي أيضا.
تدوير النفايات الفكرية تراه في مصطلحات وتفسيرات يلوكها البعض تصبح بمثابة موضة فكرية رغم أنها مفاهيم مستوردة فشلت في تفسير الظواهر في بيئتها الأصلية، واستمع في مصر اليوم لكل من هب ودب يحدثك عن الدولة العميقة وكأنه مفهوم صراع الحضارات أو نهاية التاريخ، مع أن المفهوم الذي ابتذل في موطنه، أي في حالة الدولة التركية، لا يفسر شيئا.
والدولة العميقة في المفهوم التركي هي الأجهزة في الدولة والتجمعات في المجتمع المعادية للديمقراطية والحرية. وفكرة الدولة العميقة تعبير «مكعور» (عشوائي) من فكرة أصحاب المصالح vested i interests والمستهلك أيضا في العلوم الاجتماعية منذ بداية الستينات. القصد هنا أن رواج الأفكار البالية لا يبشر بأن الثورة تنطلق نحو قيم أفضل أو مجتمع أفضل.
لدينا في مصر مجموعات مختلفة من السلفيين بالمعنى الواسع، أي الذين يريدون العودة إلى الوراء، سواء كانوا الناصريين ممن يريدون العودة إلى زمان عبد الناصر، أو الليبراليين الذين يريدون العودة إلى الملكية وأسرة محمد علي، أو الإسلاميين الذين يريدون العودة إلى السلف الصالح.
والحقيقة أن هذا النوع من الممارسات في الحديث عن الأسلاف، عبد الناصر والعهد الملكي والسلف الصالح، بالطريقة المصرية ما هو في حقيقة الأمر إلا ممارسة لو نظرنا إليها بعقل نقدي تشبه ممارسة عبادة الأجداد عند بعض القبائل الأفريقية أو عبادة الانسستور في الديانات الكنفوشية والشنتو في صيغتها البدائية في اليابان والصين.
ودراسة مقارنة بين السلفية من هذا النوع المصري وعبادة الأجداد في الديانات البدائية في أفريقيا موضوع بحث أعمل عليه منذ أعوام. المهم في هذه النقطة هو علاقة الثورة بقيم جديدة، الثورة ليست أهدافا سياسية بل هي تغيير في قيم المجتمع.
في مصر حتى الآن نحن نتحدث عن قشور ثورة، فقيم الماضي لم تمس بل يعاد تدويرها وبشكل مضحك أحيانا. فالرئيس المنتخب على سبيل المثال يتحدث عن إيمانه بالدولة الحديثة، بداية بمفهوم العلاقات الدولية وتحديد الدول بعد معاهدة وستفاليا، كل الدول تسمى دولا حديثة modern states. أما لو كان الرئيس يقصد الحداثة modernity فهذا يعني الأسس الفلسفية التي تقوم عليها الحضارة الغربية الآن من فلسفة العلوم وتطور رؤية الغرب للحقيقة في الفيزياء من آينشتاين إلى الكوانتم ميكانكس إلى الهولوغرام وتطور فكرة الزمن سواء في الفيزياء أو في الآداب المصاحبة كأعمال بوست في فرنسا وفوكنر في أميركا. كذلك تطور علم النفس من فرويد ويونغ إلى الآن.
الحداثة ليست مجرد شتلة زرع تأخذها من الغرب وتزرعها في الشرق. الحداثة الأوروبية نتيجة لتغير في نمط إنتاج من زراعي إلى صناعي أنتج حداثة ثم انتقلت أوروبا وأميركا ومعها اليابان بالطبع من مجتمع حداثي إلى ما بعد حداثي postmodern. لا تستطيع مصر أن تصبح مجتمعا حداثيا دونما تغيير في الأسس الفكرية للمنظومة الحاكمة فليست هناك حداثة قادمة من عالم عبادة الأجداد.
الثورة تغيير في القيم والقواعد الحاكمة للمجتمع ولكن للأسف نراها نحن في مصر وفي بقية العالم العربي مجرد تغيير لقائد السيارة ونضرب السيارة «بويه» أو طلاء جديدا ونقول قمنا بثورة. الثورة ليست طلاء السيارة بلا تغيير قواعد المرور وقواعد السير. الثورة هي الخروج من سجن العقل الذي يعبد الأجداد إلى عقل واثق يؤمن بالحرية كقيمة أسمى لأي عمل ثوري. هذا ما لم يحدث في مصر حتى الآن. ولكن كما قالت سيدة الغناء العربي، أنا عندي أمل.