كتاب 11

09:12 مساءً EET

مأمون فندي يكتب: صديقي من نجد مرة أخرى


منذ عشرين عاما خلت وبالتحديد في الرابع من فبراير عام 2001 ، كتبت في صحيفة الشرق الأوسط عن “صديقي من نجد” كتبت عنه تلميحا لا تصريحا. بعدها كثرت التخمينات من يكون هذا الصديق الجدير بكل ذلك التقدير. وكان بين المخمنين من هو قادح لتجرؤ اهل الوديان في الكتابة عن اهل الصحراء، وكان ايضا بينهم من هو مادح إذ رأى في صديقي النجدي صورة مشرقة لبلادهم تتجلى في واحد من ابنائها. يومها كان صديقي على وشك الانتهاء من درجة الدكتوراه، وبالامس هبت علي نسائم اللقاء الاول عندما سمعته يتحدث وهو يُدشن معرض مشروعات المدينة المنورة الاسبوع الفائت، بالعذوبة والتواضع ذاتهما اللذين عرفته بهما قبل عشرين عاما، بلا ادعاء ولا خيلاء، ذاكرا من جاءوا من قبله وشيدوا وعمروا وبنوا في المدينة المنورة، اطهر بقاع الدنيا، بقعة كانت ولا تزال سراجا منيرا للبشرية. تحدث في حالة من إنكار الذات، ليس تواضعا بل لإرساء مفهوم اعمق واشمل يتسم به رجل الدولة، مؤكدا على ان المؤسسات لا الافراد هي الباقية في عالم الدول، ولا غرو فهو الدارس الحصيف للعلاقات الدولية والمتمرس في قراءة التاريخ السياسي للأمم.


بدأ حديثة عن اول مرة زار فيها مدينة الرسول الكريم بصحبة والدته رحمها الله وهو في سن مبكرة، ثم عاود زيارتها مرات فيما بعد قائلا كلما جئت المدينة وجدت فيها تطويرا ونقلة حضارية. والتطور والاهتمام بالعمران والانسان والتاريخ ملمح اساسي من ملامح الدولة السعودية، ثم اشار الى ان والده علمهم واخوته منذ البداية ان يكونوا جزءا من فعل الخير، وكانت لذلك الاب فلسفة ومدرسة خاصة في تربية ابنائه على الإلمام بتاريخ المكان وعماره وعمرانه واهله، فلا تقام الدول الا على إدراك طبيعة هذا المثلث.


حديث صاحبنا ليس خطبة موظف عمومي أو حاكم لإقليم، لكنه حديث يبني سردية ينسج فيها من عبير الأم وهو في الحرم النبوي طفل صغير، الى فلسفة تربية الاب له ولإخوته الذين رحل اثنان منهم عن عالمنا ولكن بقي الإخوة الآخرون سندا وعضدا للدولة. حديثه فيه قيم الأسرة السعودية بدفئها والعربية عموما، وليس فقط الأسرة الحاكمة، وفي ذلك رسالة لأنسنة الحكم، فرغم تركيزه على المؤسسات التي ورغم اهميتها تجعل الحديث رسميا وجافا، إلا أنه نجح في أن يوازن بين رسمية الخطاب وأنسنة الحديث عن الاسرة وعن الانسان.


عندما تحدث عن أخيه ولي العهد الامير محمد بن سلمان ، كانت لغته تؤكد على ولي العهد رجل الدولة، هنا تنحت العلاقات الاسرية جانبا للتأكيد على هيبة الحكم وتراتبيته المؤسساتية. ولا عجب، فمن يحكم المدينة المنورة لابد وان يدرك معنى الدولة، فمن المدينة انطلقت دولة الاسلام بمعناها الدنيوي، وفيها ومنها حكم خلفاء رسول الله.


صديقي النجدي ربما لا تروق له هذه النوعية من المقالات التي تتسرب بين ثناياها رائحة الاطراء، فهو بحكم تعليمه الجاد، رجل اكاديمي صارم في احكامه وذلك حصيلة تدريبه العلمي اثناء دراسة الدكتوراه في جامعة اكسفورد البريطانية العريقة. وهنا لا اتحدث عن الموضة الرائجة في بلاد العرب والتي يذهب من خلالها البعض الى جامعة هارفارد او جامعة اكسفورد لشهور قليلة لدراسة executive course للحصول على ورقة تقول ان الشخص ذهب الى اكسفورد او كمبريدج او هارفارد أو ستانفورد. فهو خبر الحياة الاكاديمية على أصولها، ومن هنا جاءت معرفتي به عندما قدم كباحث زائر في جامعة جورجتاون وهو ينهي رسالته للدكتوراه وكنت وقتها أدرس فيها كبروفسور للعلوم السياسية. ما لفت انتباهي يومها هو النظرة بعيدة المدى لشاب في مقتبل العمر والاتزان العقلي والحكمة والتواضع، صفات كانت هناك منذ عشرين عاما واراها باقية ولكن صقلتها خبرات الحياة وتجربة الحكم وهو يقف على شاطئ الخمسين من العمر.

يدرك اهل المدينة جوهر ما جرى وما تغير فيها في مثلث الانسان والعمران ومؤسسات ادارة المدينة المنورة ، اذ لا يمكنك وأنت تمشي من مسجد قباء الى الحرم النبوي في هذا الممشى الممتع والممتد لمسافة ثلاثة كيلو مترات من دون سيارات، فقط الانسان والمكان وروح المدينة، إلا أن تتوقف عند رؤية “صديقي النجدي”، وهي أنسنة العمارة وتضفير التاريخ بالحاضر بانسجام وتكامل واستمرارية من دون إقحام أو افتعال، رؤية فيها فهم لخصوصية المكان وهويته وتعكس بلا شك ثقلا وعمقا حضاريين، وليس كما نرى في مدن اخرى حيث يعاد إنتاج الماضي بصورة براقة، لكنها مجرد قشرة زائفة.


أطلق “صديقي النجدي” مشروع الأنسنة بمثلث مفاهيمي، أضلاعه : الإيمان ،الإنسان،العمران.. وفي كل جانب دشن العديد من المبادرات التي تخدم مدينة الرسول الكريم وعاصمة الإسلام الأولى، كما وصفها في خطابه الأخير . وكان من أبرزها إعادة الصلاة إلى المحراب القديم، وإطلاق مشروع إنقاذ وترميم الجدار القبلي اللوحة الجمالية الأكثر إلهاماً في طريق الماضين إلى حضرة المقام النبوي والمواجهة الشريفة، كما حرص في تنمية الإنسان على الاهتمام بملفي التعليم والصحة من مدرسة مداك العالمية والتي تضاهي كلية فكتوريا الشهيرة في الاسكندرية التي انشئت عام 1902، وتخرج منها رجال ناجحون مثل ادوارد سعيد وعمر الشريف وتخرج منها رجال دولة مثل الملك حسين بن طلال. ومن مبادراته أيضا ألا يكون في المدينة كلها مبنى مستأجر للمدارس الحكومية من خلال اوقاف محلية، كما أصر على أن يكون في المدينة فرع للمستشفى التخصصي ذائع الصيت كما في العاصمة الرياض، وصولا إلى إعادة إحياء عمران المناطق العتيقة من سيد الشهداء إلى حمراء الأسد وجادة قباء حيث المشي من المسجد النبوي إلى قباء من دون ضوضاء السيارات أو مشاهد بصرية مؤذية بل تجانس في العمران والإنسان، أما بنات المدينة ونساؤها فكان مشروع نماء المنورة مظلتهن التي تتحول معها الحرف اليدوية إلى مصنع متكامل من الفكرة إلى العرض، هذا اضافة الى مركز للفنون ومتاحف عديدة حولت الزمان اليومي في سيدة المدن إلى تجربة روحانية وثقافية وبصرية لا يمكن نسيانها.


قال في حواره.. ان زيارة ولي العهد الاخيرة للمدينة وكذلك زيارة جلالة الملك من قبل اطلقت ايدي اهل المدينة في الابداع، اذ اشار إلى ان ميزانية كبيرة خصصت لإتمام هذه الاعمال الكبرى التي تشهدها المدينة والتي يلتحم فيها التاريخ بالمستقبل، مثل توسعة مسجد قباء ليكون جامعا لا مسجدا، فالجامع فيه الاجتماع الانساني الاوسع وتطوير المكان لا مجرد موقع للسجود، الى ترميم وتوسعة مسجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الى إعادة تأهيل منطقة سيد الشهداء.. والقائمة لا تنتهي.
مرة اخرى عند حديثه عن ولي العهد والميزانية التي خصصها للمدينة المنورة مجلس الوزراء الذي يرأسه ولي العهد، كان الحديث في إطار دولة تحكمها المؤسسات ونظام صارم في الحكم. واعتقد ان مزاج صاحبنا الفكري يروق له هذا الاسلوب في العمل الذي تحكمه فكرة الشفافية والمتابعه والالتزام transparency and accountability .

فكرت كثيرا قبل كتابة هذا المقال حتى لا يجد السرد طريقه الى دروب الاطراء ولكنني رأيت في الرجل عزوفا عن الاعلام يصل الى حالة الاختفاء التام، فاردت ان اقول شهادتي على ما اعرف ويعرفه كل منه زار “مدينة النبي” خلال العقد الفائت. وقد يمتد بي العمر لكتابة مقال اخر بعد عشرين عام اخرى.

لقراءة المقال القديم هنا: https://archive.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=24640&issueno=8104#.Y6XvDiWny_Y

التعليقات