مصر الكبرى
لوحة للإيطالي “تشيان” عن رحلة العائلة المقدسة في سيناء
 
مصر تطل من نوافذ المتحف الوطني البريطاني
تجسيد لملامح الطبيعة المصرية وانفتاحها على مر أحقاب التاريخ
كتبت – مروة فهمي :
تحظى مصر باهتمام خاص من المتاحف البريطانية ، لأن تاريخها العريض والحافل بالأحداث يجد في كتاب الذاكرة الإنسانية فقرات واسعة تسجل الحقبة الفرعونية ثم الأخرى اليونانية المختلطة بالرومانية ودخول العصر المسيحي الذي ازدهر على أرض المحروسة ، ثم تجلى الهلال الإسلامي بخصوبة الانجازات والإضافات ، حتى مراحل متأخرة من العصور المملوكية التي تراكمت على أرض مصر . عندما تذهب إلى المتحف البريطاني بمنطقة راسل سكوير ستجد الحقبة الفرعونية شامخة بالإجلال والتقدير . ولا تزال عيون البحث والدراسات تنقب في سجل حضارة عريقة سبقت وتألقت في الانجاز والاختراعات التي لا تزال حتى الآن تحير العقل البشري .
كلما ذهبت إلى المتحف البريطاني وجدت قوافل الطُلاب والدارسين تعكف على البحث والتسجيل في عهد الفراعنة الباهر . ويقول مسؤول بالمتحف أن زواره سنويا يبلغ حوالي 6 ملايين شخص يطوف أغلبهم بالقسم المصري بآثاره وتاريخ الأسر المختلفة في العهد الفرعوني . عندما أذهب إلى متحف فيكتوريا وألبرت اعثر على حضارة مصر الإسلامية العريقة بما تتضمنه من لوحات قديمة تم صوغها في العهد المملوكي وآيات أثرية تعبر عن ثراء تلك الفترة التي لا تزال تحتفظ بحضورها في فن عمارة المساجد والأسبلة العريقة ونهج الجمال الإسلامي الشامخ واعتماده على تجريد وحروف اللغة العربية بكل ما تمرز إليه من المعاني .
تهتم المتاحف والقاعات البريطانية بالحقبة اليونانية الرومانية خصوصاً عصر كليوباترا حيث استضاف المتحف البريطاني منذ فترة احتفالية تلقي الضوء على هذه الفترة وحكم الملكة المصرية الحالمة بإمبراطورية تمتد إلى روما نفسها ، غير أن طموحها تحطم بعد تدمير أسطولها على يد القائد الروماني اوكتافيوس .
وقد سجل شاعر مصر أحمد شوقي هذه الملحمة في مسرحيته الشعرية التي تحمل إسم الملكة المصرية . وقد سبقه وليم شكسبير في نسج قصة الحب العنيفة بين كليوباترا والقائد الروماني أنطوني . وأحلامهم المشتركة ونجاح الملكة المصرية في زرع أماني الإمبراطورية المصرية في ذهن هذا القائد .
في المتحف البريطاني يوجد حجر رشيد الذي فك ألغاز اللغة الفرعونية القديمة . وبجوار هذا الإرث عشرات الأجنحة في معارض ومتاحف تتحدث عن مصر خلال مراحل مختلفة وتاريخ طويل وعلاقات مع دول العالم واستيعاب كافة الأديان والثقافات وختمها بروح مصر .
وفي قلب ميدان الطرف الأغر يوجد المتحف الوطني بكل تراثه حيث يطل على مراحل مختلفة من الوعي الأوروبي والتاريخ القديم والوسيط والمعارصر أيضاً . غير أن المتحف يزهو هذه الأيام بإسم مصر ، فكلما سرت في أحياء العاصمة ستجد ملصقات تتحدث عن مصر بمناسبة عرض تحفة الرسام الإيطالي الشهير < تشيان > الذي سجل فيها رحلة العائلة المقدسة إلى أرض سيناء.
عندما دخلت قاعة المتحف الوطني البريطاني وجدت اللوحة في القلب تماماً وكأنك تشم من خلالها نسيم مصر العليل وجمالها العاطر وحضورها البليغ في هذه الإطلالة الجميلة حيث تحتضن أرضها الطاهرة العائلة المقدسة ، التي فرت من فلسطين نتيجة الاضطهاد الروماني ، ووجدت في أرض الكنانة الحماية والاطمئنان والسلام .
اللوحة كانت موجودة في روسيا منذ عام 1768 ، وهي تُعرض للمرة الأولى في لندن وتجذب هذا الاهتمام البالغ والتعليقات مع نشر كتب عن مصر وتنظيم محاضرات تطوف بأرجاء التاريخ المصري ، وكيف أن هذا الوطن العظيم كان يمنح دائماً الأمان لمهاجرين وغرباء يعثرون في أرض النيل على الحماية والمكان الآمن للاستقرار والعيش وضمان الحياة .
رحلة العائلة المقدسة لوحة بارزة في التاريخ الفني الإيطالي وفي عصر النهضة رسمها فنان بارز اهتم بالاطلاع على أحقاب مختلفة من التجارب الإنسانية . وعندما اقترب من مصر تخيلها بهذا المنظر الرائع الذي رسمه ، حيث تبدو عائلة مطمئنة ترحل في وديان سيناء وهي تشعر بالاستقرار والأمان والسكينة .
عندما تنظر إلى اللوحة تشعر كأنك في مصر عبر هذه اللوحة الرائعة التي تنبض بالحياة وتتجاوز تضاريس الزمن . فقد ظلت مصر عبر التاريخ دائماً تحتضن الأديان والحضارات وتتسع الجميع وتحافظ على تنوعها ونشاطها وعقلها ووجدانها الخلاق .
هذه اللوحة الرائعة جلعتني أنظر في التاريخ المصري وكيف أن بلادنا على مر الأحقاب ، كان يأتي إليها البشر من كل فج عميق  . وقبل الحرب العالمية الأولى وبعدها وحتى فترة الخمسينيات ، كانت مصر قبلة المهاجرين والباحثين عن أمان والهاربين من صراعات في أوطانهم واضطهاد .
وقد لجأ إلى مصر أرمن وشوام وطوائف إيطالية ويونانية ومسيحيين ويهود . وعاش الكل تحت سماء هذا الوطن في استقرار واسترخاء . لذلك مصر التعددية مع الحرية والتنوع وهي علامة كبيرة على انجاز هذا الوطن .
مصر في كتابات الغربيين والرحالة موجودة بهذه الصفات ، فلم تشهد على الإطلاق الحروب الأهلية أو النزاعات الطائفية المدمرة . وما عانته في سنوات القلق الأخيرة ، كان نتيجة ثقافة غريبة تسللت إليها ولم تعرفها من قبل .
وعندما اشاهد الأفلام المصرية القديمة نرى أهل الحارة من ديانات وجنسيات مختلفة ينطقون اللغة ذاتها ويمارسون العادات نفسها . وتتألق في هذه الأفلام بالذات ملامح الجالية اليونانية التي كانت مرتبطة بشكل عميق مع حياة المصريين ومتداخلة في أسلوب العادات والتقاليد . وقد حدث اندماج مثير وانصهار بين العنصرين المصري واليوناني نتيجة التزاوج . فمصر تسهر الغرباء في جوفها بالمودة القادمة من نهر النيل .
وقد توقفت طويلاً أمام لوحة < تشيان > في المتحف الوطني البريطاني أتأمل رحلة العائلة المقدسة واستمع إلى تعليقات بأن هذه الهجرة المؤقتة إلى سيناء ، كانت من أسباب حماية السيدة مريم العذراء ونجلها عيسى عليه السلام ويوسف النجار الذي قاد الرحلة إلى أرض النيل ووطن الكنانة والحب .
ويا ليت كل المصريين يرون هذه اللوحة الرائعة التي رسمها إيطالي عبقري وتخيل من قراءات له شكل مصر وسيناء ، فجاءت لوحة بهذا اللنبض ، الذي لا يزال يخرج منها بعد قرون طويلة من رسمها وتسجيلها لما جرى في الألفية الأولى ويشد الانتباه والتأمل حتى الآن .
مصر تبرق في لوحة < تشيان > التي سجل فيها رحلة العائلة المقدسة إلى أرض الكنانة . والرحلة واللوحة معاً في مكانة بارزة داخل كتابات وعقول المسيحيين وبالنسبة لنا في ترمز إلى بلدنا والعلاقة الحميمة المستمرة مع عناصر الوطن .
وهناك من يراهن على انقسام ويبث خلافات غير موجودة أصلا لتحقيق بعض الأهداف السياسية الرخيصة . والوطن اكبر من هذه السخافات وقد وجدته يشرق من قلب أوراق التاريخ ويطل على لندن بهذا الحضور المتألق على أرض خضراء لسيناء وهي تحتضن الهعائلة المقدسة وتنشر حولها الأمان .
وقد كانت مصر خلال تاريخها هي الأرض الآمنة ، وهناك من يحاول هز الثبات الوطني لكن تلك الأمواج الفاسدة ستنتهي وتتلاشى لأن بلادنا هي نهر المحبة الجميل ، ومن يريد التأكيد من هذه الحقيقة عليه الذهاب للمتحف الوطني البريطاني ومشاهدة لوحة الفنان الإيطالي الذي سجل فيه بريسته رحلة العائلة المقدسة إلى مصر .