أفضل المقالات في الصحف العربية

09:38 مساءً EET

مقال كتبته عام 2009 مازال يوصف حال مصر الآن

«ع المحطة»
منذ أعوام ومصر كلها «ع المحطة» فى انتظار القطار الذى سيأتى، إما على رصيف الحزب الوطنى بقيادة جمال مبارك، أو على رصيف الإخوان بقيادة مهدى عاكف.

وانقسم البلد إلى ثلاثة أقسام غير متساوية: قسم يقف على رصيف جمال مبارك، وقد يصل إلى عشرين فى المائة من النخبة وربما الشعب، وقسم ثان يقف على رصيف الإخوان وقد يصل إلى عشرة فى المائة، أما القسم الثالث «السبعون فى المائة» فهم يقفون على رصيف جمال مبارك، ولكن «شنطهم» على رصيف الإخوان. مشهد المحطة مثير، وقد يكون هو المفسر الجامع المانع لكل ما نراه من معارك وهمية وألاعيب بهلوانية على مستوى الصحافة والسياسة والبرلمان، وربما فى كل مؤسسات البلد، كلها أدوات تسلية لكسر ملل الانتظار.
«مصر المحطة».. مثل أى محطة قطار تعج بكل صنف ولون، فيها الحواة، وفيها القرداتى، فعلى الرصيف هناك من يبيع الوطنية على غرار «شعر البنية» الذى يذوب فى فمك لحظة تناوله، وهناك من يبيعك حب مصر فوارا كزجاجات الكازوزة، ومملحا كحبات الترمس، وهناك المداحون المصفقون والقافزون على كل الحبال كالبهلوانات، كلهم جاءوا لكسر الملل. أما على الرصيف المقابل، رصيف الإخوان، فتسمع الإنشاد الدينى وأصوات الذكر، ومن يبيعون علاجا للسرطان بالأدعية، وكتبا عن الطب النبوى وعذاب القبر، وهناك الدراويش وحلقات الذكر.
وما بين الرصيفين تنتقل جوقة بائعى دخان وصحف ومروجى بضاعات تافهة لا تباع إلا والناس فى مرحلة انتظار وملل. وعلى الرصيفين تقف مجموعة عيال فى أيديهم موبايلات والدقيقة بجنيه، لأن الناس الذين لديهم موبايلات ويحاولون معرفة أى خبر عن موعد القطار خلص منهم الشحن، ولا تعرف خبراً ببلاش إلا إذا كان تافها، كل الأخبار بفلوس وعند العيال بتوع الموبايلات.
لحظات كسر الملل تأتى عندما تسرى شائعة بأن القطار قادم ولكن لا يُعرف على أى رصيف، هنا تشرئب الأعناق ويتجهز الجميع ممن تراودهم فكرة الاجتماع بحقائبهم على رصيف الإخوان، ومنهم من يدعو الله أن يكون القطار على رصيفه، وما هى إلا لحظات حتى تهمد الأجساد، لأن شائعة جديدة تقول إن القطار لم ينطلق من مقره بعد «القطر فى المخزن» لأن به أعطالاً لابد من إصلاحها، وأولها الفرامل. فقطار بلا فرامل قد «يودى الناس فى داهية»، فتبدأ جولة أخرى من الانتظار، يصيح فيها باعة الصحف بأخبار قد تكون مشوقة:
«إقرأ فى عدد اليوم، فاروق حسنى خسر اليونسكو».. و«شيخ الأزهر قلع البنت الحجاب فى الكُتاب».. «وإوعى الخضروات المسرطنة يا مؤمن».. و«البرلمان يصدر فرمان»، و«حريق فى مجلس الشورى»، و«الأهرام تستقبل السفير الإسرائيلى»، كل هذه الأخبار ينادى بها الباعة الجوالون وسط زحام من لاعبى الأراجوز والبهلوانات وبخور الذكر القادم من على الرصيف الثانى، ولكن الناس لا يلقون بالاً لهذه الأخبار والمعارك الوهمية، هم فقط بانتظار الخبر الوحيد المهم: متى سيأتى القطار، وهل تم إصلاح الفرامل أم لا؟ و«مش مهم» على أى رصيف سيأتى، فهم جاهزون للوثب بشنطهم فى أى قطار قادم، أيا كانت تكلفة عبور الرصيف، وأياً كانت المحطة!.
«ع المحطة».. هناك ناس «محصورة» ولا دورات مياه، منهم من يختبئ خلف المحطة ويعمل عملته، والناس فى المحطة تتقبل الروائح الكريهة لأنهم فى حالة انتظار «مجبورين، الله ما يحط حد فى ديقة، ولا فى الدويقة». الناس تتسامح مع كل السيئات، فقط لأنها لحظات انتظار مؤقتة لن تدوم. ولكن مصر، يا جماعة، لها سنوات وهى «ع المحطة»، والأمر طال أكثر من اللازم.. «حد يقول للناس القطر موش جاى ويريحهم، علشان الناس تروح بيوتها وتشوف شغلها».
للأسف إن حالة الانتظار هذه، ولطول مدتها، قد أصبحت أسلوب حياة. لم تعد لدى الناس رغبة فى العودة إلى بيوتهم، لقد أدمنوا الانتظار، هم مشتبكون عاطفيا مع حالة القطار. الانتظار فى المحطة خلق عالمًا وهمياً قبله الناس كوضع قائم. وحالة الانتظار هذه هى الأساس فى كل ما نشهده من معارك وهمية وبطولات وهمية، فما أن انتهينا من معركة فاروق حسنى، وفيلم هالة مصطفى والسفير الإسرائيلى، حتى دخلنا فى معركة شيخ الأزهر والنقاب.
فى مقال الأسبوع الفائت، تساءلت عن مؤلف هذه المعارك الوهمية فى مصر، ربما لا يكون هناك مؤلف واحد فقط، وإنما هى شائعات لأكثر من مؤلف، مجرد شائعات للتسلية وكسر الملل المصاحب لانتظار يعيشه البلد وقد طال كثيرا. تجار الشائعات والوهم والوطنية الكاذبة والبهلوانات يستغلون هذه الأوضاع وضجر الناس ومللهم من وضع غير معروف ليبيعوا بضاعتهم. وللأسف قد يمتد الانتظار أكثر وأكثر، فلا أحد إلى الآن يعرف على أى رصيف سيأتى القطار، خليكم منتظرين شوية.
فى ضجر الانتظار هذا، تأهبوا لمعركة وهمية أخرى الأسبوع القادم، سينادى عليها بتوع الكازوزة: ع المثلج، برد قلبك يا مؤمن، واستهدى بالله وانتظر، فالقطار قد يأتى أو لا يأتى، المهم أننا مشغولون بإنتاج معارك وهمية للتسلية، أما إذا اتصلت على مصر فى قضية كبرى اليوم، فلا أحد يرد، «مفيش حد فى البيت، الناس كلها ع المحطة»!.
 
 
 
 

التعليقات