كتاب 11
ما الخطأ في «يسقط حكم العسكر»؟ من منظور عمراني
الناظر إلى نداء «يسقط حكم العسكر» من منظور معماري، لا بد وأن يراها دعوى ساذجة، وبالسذاجة هنا لا أسفّه من الجانب الرافض لديكتاتورية عسكرية، أو نظام سياسي تكون الغلبة فيه للجيش، ولكن السذاجة تكمن في عدم قدرة مطلقي هذه الشعارات على فهم معماري لتغلغل البنى العسكرية كعمارة في نسيج المجتمع وتخطيطه، مما يجعل مقولة كهذه تعني أن تكر الخيط الرابط للنسيج الاجتماعي، فتفك قطعة القماش برمتها. إلى هنا والأمر يبدو تجريدا وغير واضح، ولكن لو لاحظت وأنت قادم من مطار القاهرة إلى وسط المدينة، وبداية من مصر الجديدة إلى ما بعد العباسية لا تخطئ عينك عدد المنشآت العسكرية، بداية من الكلية الحربية على يمينك، عند أول مصر الجديدة إلى وزارة الدفاع، إلى دار القوات الجوية إلى المدرعات والمشاة. الجيش في وسط المدينة وليس على حدودها.
وفي علم السياسة في دول العالم الثالث غالبا ما يكون سؤال العلاقة المدنية – العسكرية (civil – military relations) سؤالا جوهريا، في حالة مصر أنت لا تستطيع فصل الجيش عن المجتمع، ليس بالمعنى المجازي في شعار «الجيش والشعب إيد واحدة» بل بالمعنى الحرفي الفيزيائي. الجيش موجود معماريا في كل شرايين العاصمة، أو في الجزء الأهم والأكبر منها. والمقام هنا ليس مقام لماذا قرر الناس أن يضعوا الجيش قبل الشعب في شعار «الجيش والشعب إيد واحدة»، ولكن يكفي القول بأنه في المجتمعات الليبرالية يكون الشعب وربما الفرد قبل كل شيء، فالديمقراطيات أساسها الفرد، وهو اللبنة الأساسية في البناء الديمقراطي بما لهذا من مدلولات تخص حقوق الإنسان في مجتمع بناء المعماري إلى معمار العشوائيات التي يختفي فيها الفرد لمصلحة الحارة والجماعة والشعب لندخل فقط العقاب الجماعي بدلا من الحقوق الفردية. وهذا كلام أسهبت فيه سياقات أخرى، ولكن نقطتي اليوم هي السذاجة المعمارية في شعار يسقط حكم العسكر وعلاقته بالبناء الاجتماعي كمنظومة عمرانية.
عندما خطط محمد علي ومن بعده أبناؤه وأحفاده القاهرة كانت مساحات الجيش خارج المدينة، وكانت العباسية التي جاء نسبتها إلى الخديوي عباس الأول (1848 – 1854)، أرض صحراء باسم الريدانية، وسميت بالعباسية نسبة إلى الخديوي عباس بن أحمد طوسون بن محمد علي باشا. كانت مواقع الجيش خارج العاصمة وظهرها للمدينة وليس وجهها إليها، أي أن علاقة الشعب بالجيش بعيدة وغير واضحة، وكان الشعب ليس لديه حب استطلاع لما هو خلف أسوار المنشآت العسكرية، ولم يكن وجود الجيش ثقيلا في شوارع المدينة وعمارتها. هذه المسافة بين الجيش والشعب، هي التي منحتنا الليبرالية الملكية في عهد محمد علي وأسرته حتى فاروق.
أما بعد حركة الضباط الأحرار في عام 1952 فتداخلت مباني الجيش في عمران المدينة، بداية من المواقع العسكرية العاملة إلى الأماكن الإدارية لوزارة الدفاع، إلى أندية الضباط ومساكنهم الخاصة أصبح «الجيش والشعب جيران، الحيط بالحيط».
ثم بدأت أيضا عمارة الجيش الخالية من الميادين والتي تشبه معمار رومانيا والديكتاتوريات الشيوعية. معمار شوارعه ضيقة لا تسمح إلا بحركة المخبرين الماشيين على الأقدام وهو معمار عكس معمار الخديوي إسماعيل الذي منحنا تخطيطا عمرانيا رحبا للقاهرة من ميدان الإسماعيلية في القاهرة (التحرير حاليا) إلى ميدان القائد إبراهيم في الإسكندرية، ومن تابع ثورات مصر يلحظ أن التجمعات البشرية لم تحدث في مدن عبد الناصر وما بعده من مدينة نصر إلى إمبابة وحلوان، حيث لا ميادين تتسع لأكثر من ثلاثين فردا، ولكن الثورات حدثت في ميادين الخديوي إسماعيل، ميادين الفضاءات الرحبة والحرة التي تتسع لمئات الآلاف احتفالا أو احتجاجا.
في معمار الليبرالية كانت الرؤية واضحة والعلاقات واضحة، فكما في مدينة مثل لندن ترى العلاقات المعمارية للسلطة واضحة من أكبر مبنى يمثل سلطة الشعب (مبنى البرلمان في ويستمنستر) إلى قصر الملكة الذي يقل في الحجم ككتلة معمارية عن البرلمان إلى الكنيسة التي ترمز لموقع الدين في الحكم وهي كنيسة صغيرة جدًا (ويستمنستر آبي) إلى ذلك الباب الأسود المعروف بـ10 داوننغ ستريت، وهذا موقع رئيس الوزراء سياسيا ومعماريا. لا تحتاج إلى عالم سياسة كي يشرح لك توزيع السلطات في لندن، فهي أمام عينيك واضحة، ولا أقول وضوح شمس لندن إلا في الصيف، فلندن خالية من الشمس معظم العام.
هذا التوزيع الواضح للسلطات كان واضحا في عهد محمد علي وأسرته، وكان الشارع واضحا ومنفردا من القلعة كرمزية للحكم إلى مبنى الأزهر، حيث السلطة الدينية إلى مبنى البرلمان. الكل في موقعه وحسب حجم كتلته المعمارية.
أما ما بعد ثورة 1952 ففي المسافة ما بين القلعة والأزهر والبرلمان ساد معمار عشوائي حجب الرؤية بين المراكز المختلفة للسلطة، ومن هنا لم يتسيد فقط العمران العشوائي، بل جاء معه نظام الحكم العشوائي.
لم يعد ظهر الجيش للمدينة، بل أصبح أمام الجيش عشوائيات مدن المقابر وبقية العشوائيات.
وحينما تفتق عقل المصريين عن الإصلاح، لم يفكروا بنقل الجيش خارج معمار المدينة، بل فكروا ببناء عاصمة إدارية خارج مدينة أصبح الجيش جزءا لا يتجزأ من عمرانها.
ما أريد قوله هنا: إن المعمار هو أساس علاقات الحكم ولا يمكن أن تقيم بناء ليبراليا في مكان تخطيطه العمراني ديكتاتوري. مقولة «يسقط حكم العسكر» سذاجتها تكمن في قفزها فوق عمران قائم وكتل معمارية يصعب زحزحتها. فسقوط حكم العسكر في معمار كهذا يعني سقوط المدينة، وما تلك بدعوة لاستمرار تحكم الجيش في السياسة، بقدر ما هي دعوة ضد السذاجة والقفز على الواقع حتى لا تصاب المجتمعات بخيبات أمل تأخذها إلى المجهول.
المنظور المعماري الذي أقدمه لقراءة السياسة والسلطة في مصر مفتوح على تفسيرات أكثر عمقا أتناولها في كتابي القادم عن «العمارة والسياسة» بتفصيل أكثر ورؤية أعمق.