كتاب 11
كان ربيعًا.. أم ركام حرب باردة؟
هل ما نراه في العالم العربي اليوم من فوران وعنف، هو نتيجة لتاريخنا الخاص، أم هو جزء من نتائج حركة التاريخ الكبرى للعالم؟ أي: هل هو ربيع عربي محلي – سواء أكان صادقًا أم كاذبًا – جاء نتيجة لانهيار معمار الاستبداد في بلداننا، أم هو جزء من ركام الحرب الكونية الباردة، التي فشلت الدول العظمى في خلق نظام عالمي حاكم بعدها، كما كان الأمر في حالة العالم فيما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية؟ هل ما رأيناه في أوروبا الشرقية من مخلفات حرب المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وهل ما تعاني منه إلى الآن، هو تداعيات حرب لم يتبعها ضابط دولي مناسب؟ وهل ما رأيناه في «مسرح العمليات الثالث» الممتد من أفغانستان حتى المغرب، هو مجرد ركام للحرب الباردة ورثنا تبعاته نحن فيما أطلقنا عليه «الربيع العربي»؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل الحلول في منطقتنا إقليمية أم عالمية في طبيعتها من ليبيا إلى سوريا، مرورًا بمصر واليمن؟
الوصف الصحيح للظاهرة أو تشخيص المرض هو البداية الصحيحة للعلاج.
الحروب الكبرى، مثل الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية، تترك بعدها ركامًا يحتاج إلى عقود لتنظيفه، ولا ينضبط الوضع بعدها إلا إذا اتخذت إجراءات جادة لضبط النظام العالمي. وربما لا يكتب لنظام ضبط الأوضاع البقاء طويلاً، كما حدث لعصبة الأمم كنظام ضابط بعد الحرب العالمية الأولى. من دون دخول في تفاصيل تاريخ الحرب العالمية الأولى، التي راح ضحيتها ما يقرب من عشرة ملايين نسمة، فإنه تفككت بعدها إمبراطوريات، مثل الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية، وتفككت إبانها الدولة العثمانية، وظهرت دول جديدة بحدود جديدة، ومنحتنا في منطقتنا العربية اتفاق «سايكس – بيكو». وهكذا دائمًا نتائج الحروب الكبرى في التاريخ، والحرب الباردة لا تختلف عن ذلك كثيرًا، ولكن لم يظهر بعدها نظام عالمي جديد يضبط الفوضى الناتجة أو ينظف الركام.
نهاية الحرب العالمية الثانية أيضًا أدت إلى تقزيم ألمانيا واليابان، وأنتجت معاهدات عالمية أدت إلى ظهور الأمم المتحدة ونظام مجلس أمن يحفظ السلم والأمن الدوليين. ونجحت تلك الصيغة إلى حد كبير، ولكن بانقسام العالم إلى معسكرين؛ أحدهما اشتراكي يضمنه حلف عسكري عرف بـ«حلف وارسو»، ومعسكر آخر رأسمالي ضمنه حلف عسكري مقابل هو «حلف الناتو».
ودخل العالم في مرحلة الحرب الباردة. وتاريخ المواجهة بين الاتحاد السوفياتي وأميركا معروف ولا داعي لتكراره في مقال قصير كهذا. وانتصر الغرب على الشيوعية على مراحل، كانت بدايتها تفكيك الاتحاد السوفياتي ذاته، ثم الموجة الثانية المتمثلة في ثورات أوروبا الشرقية. أما نحن في العالم العربي، فقد وصلتنا موجة نهاية الحرب الباردة في أيام ما سمي «الربيع العربي».. قد يبدو هذا زمنًا طويلاً حتى تصل ارتدادات الحرب الباردة إلى دولنا ومجتمعاتنا، ولكن إن كنت تستغرب هذا، فلدينا من المؤرخين من يرى بعض ما حدث في العالم خلال الستين عامًا الماضية، هي دماء الإمبراطورية العثمانية الذبيحة. ما أريد قوله هو أن ما عانيناه منذ 2011 حتى اليوم، هو الموجة الثالثة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وثورات أوروبا الشرقية.. باختلاف النتائج طبعًا.
النقطة التي أود إثارتها في هذا المقال، هي أن تفكك الدول لا يكون دائمًا نتيجة فساد أو تفكك في الداخل فقط؛ فدول شرق أوروبا تغيرت نتيجة لتقطع أوصال علاقتها بما كان يسمى «الاتحاد السوفياتي» أولاً، وأوضاعها الداخلية السيئة ثانيًا. الشيء ذاته يمكن أن يقال عن منطقتنا، ولكن بصيغة مختلفة؛ إذ لم تتقطع أوصالنا مع الغرب والشرق. ولكن يجب ألا نغفل عما كانت تراه الاستراتيجية السوفياتية لمنطقتنا في مواجهتها مع أميركا. الاتحاد السوفياتي كان يسمي هذه المنطقة «المسرح الثالث للعمليات العسكرية»، في حين كان يسمي أوروبا «المسرح الثاني»، وأميركا الشمالية «المسرح الأول». ما معنى هذه التسميات؟ هذه التسميات كانت تعكس خطة الاتحاد السوفياتي لو اضطر لمواجهة أميركا عسكريا في حالة نشوب حرب عالمية.. فإن استولى الاتحاد السوفياتي على آبار النفط في «مسرح العمليات الثالث»، وهو منطقتنا، فإنه يجبر أميركا على أن تحارب من على أرضها (المسرح الأول)، لا على «مسرح العمليات الثاني» الحليف لأميركا في أوروبا، لأنه بذلك يقطع النّفط عن أوروبا. كل هذا انتهى بنهاية الحرب الباردة، ولم تعد دول منطقتنا مشدودة بخيوط خارجية تحافظ على استقرارها، فتركت كل دولة حسب معادلة شرعيتها الداخلية، وسقطت الواحدة تلو الأخرى، ليس بتأثير الخارج كمؤامرة كما يدعي البعض، ولكن بتأثير الخارج الذي لم تعد هذه الدول محل اهتمامه فتركها لمصيرها.
إذن معادلة «الربيع العربي» ونهاية الأنظمة التي كانت معتمدة كثيرًا على الخارج، كانت نتيجة تفاعل العوامل الخارجية والداخلية معًا، وربما بشكل أكبر الخارجية. وكانت تعلن شهادة وفاة الأنظمة من واشنطن، حتى المتظاهرون في شوارع القاهرة أو تونس أو صنعاء كانوا ينتظرون ما الذي سيعلن عنه البيت الأبيض في ما يخص مصير رؤسائهم الذين يتظاهرون ضدهم.
النقطة التي أود التركيز عليها هي أن الحرب الباردة لم تكن أقل من الحروب الكبرى، في تغيير لوحة الشطرنج العالمية، وأن ما نراه الآن ليس ربيعًا فقط، وإنما هو بقايا الحرب الباردة وركامها.
كنس هذا الركام وتنظيفه لا يحتاجان إلى برلمانات ودساتير محلية فقط، بل يحتاجان أيضًا إلى نظام أمني عالمي وإقليمي جديد يضبط الأوضاع على المستويين العالمي والإقليمي. في غياب هذا النظام، سنرى ما نراه في سوريا، حيث تتدخل دولة مثل روسيا بطريقة خشنة للحفاظ على مصالحها، وسنرى تدخلاً إيطاليًا أو فرنسيًا في ليبيا. ما يحدث الآن سيكون مدعاة لتدخلات أجنبية غير منظمة تباركها جماعات تريد أن تتسلم الحكم، ثم تتورط بعدها في التخلص من القوى التي مكنتها. وستلجأ الأنظمة ذاتها لطرد المحتل إلى استخدام جماعات مثل «داعش» والجماعات المتطرفة، كحليف.. وندخل الدوامة من بدايتها مرة أخرى.
ما يحدث في العالم العربي يحتاج إلى صيغة مثل صيغة دمج أوروبا الشرقية في النظام الأوروبي.. صيغة تأخذ المنطقة إلى الاستقرار، وإلا ستعاني أوروبا من مزيد من العرب النازحين إليها.
«الربيع العربي»، في جزء كبير منه، هو من تبعات نهاية الحرب الباردة، وعلى الدول التي تتدخل بشكل منفرد أن تلتزم بموقف أخلاقي تجاه منطقة تهوي فيها الدولة بعد الأخرى في مستنقع الفوضى، وذلك لغياب نظام إقليمي أو عالمي ضامن للاستقرار.
اللافت للانتباه والحيرة أن الغرب قرع أجراس الخوف من البرنامج النووي الإيراني، وسعى بكل ثقله لأن يجد الحل ضمن تصور عالَمِي أكبر في صيغة «خمسة زائد واحد»، بينما لا يرى انهيار الدول في منطقتنا وفشل بعضها ضمن تصور عالمي أوسع!
بداية فهمنا لما حدث في بلداننا، هي معرفة حقيقة ما حدث، كي نصل إلى تحليل دقيق، فهل ما حدث كان نتيجة لتاريخ محلي مغلق، أم إن منطقتنا جزء من تاريخ عالمي أوسع، وما حدث عندنا كان، ولا يزال، مرتبطًا بتموجات عالمية حدثت منذ فترة، وللتو وصلت شواطئنا؟
الإصرار على أن ما حدث نتيجة تاريخنا الخاص يجعل حلول المشكلة محدودة، ويؤدي إلى تكرار الأزمات بشكل أسوأ. التوصيف الدقيق للأزمة والمرض هو البداية الصحيحة في طريق العلاج.