كتاب 11

01:28 مساءً EET

ذهنية «الغزو» و«التحرير»

تخيل ولو للحظة، ربع قرن مر على تحرير الكويت من غزو صدام حسين لذلك البلد الصغير الهادئ على ضفاف الخليج. الوقت يمر بسرعة عندما تغرق في العنف وليس كما يقول الغربيون عندما تكون في جو المتعة (passes quickly when having fun)، عندنا العنف يسرع من حركة الزمن. لم نحس بربع قرن مر، أساسه الحروب والفوضى الاجتماعية، وذلك لأن صدام حسين ومنذ أغسطس (آب) 1990 أسس لذهنية الغزو، ليبدو التحرير هو العمل المتفرد والغريب، التحرير للدول وللأفراد والجماعات، ليصبح الغزو هو القاعدة. الغزو يأتي من الداخل والتحرير يأتي من الخارج في حالة الكويت وربما في كل ما نشهده من أحداث من ليبيا إلى سوريا اليوم.
استخف البعض منا أيام احتلال الكويت للعراق بتلك الأصوات العالية المؤيدة للظلم والجور والاستيلاء على أرض الغير بالقوة رغم وجود فئة عاقلة وقفت ضد الظلم واستعانت بالأجنبي لإرساء مبدأ العدالة ويومها لم يختر العرب سؤال العدل مقابل الظلم، أو الغزو مقابل التحرير، بل تغير السؤال ليصبح استضافة الأجنبي على أرضك مقابل عدم استقباله، من سيرسي العدالة؟ دول لها وزن أم أسامة بن لادن وجماعته؟ انحاز كثير من العرب إلى قلب المفاهيم وضاع سؤال العدل ليصبح السؤال المركزي هو غزو الشقيق وظلمه المحمود مقابل استقدام الأجنبي وتحريره المذموم. كان غزو الكويت وتحريرها لحظة فارقة في كشف عورة العقل العربي، عقلية كانت تطالب بتحرير فلسطين من الظلم هناك وترقص لغزو صدام هنا، ونساء وأطفال يرقصون فوق سطوح المباني في غزة مؤيدين الظلم لغيرهم بينما يحاولون البحث عن العدل لأنفسهم. كنت أتمنى أن يحمل العالم لهؤلاء مرآة مقعرة كبيرة ليروا اعوجاج منطقهم. كانوا مع «غزو» الغير لتحرير أنفسهم، والبعض صدق مقولة صدام بأن الطريق إلى القدس يمر بالكويت؟ وأي إنسان عاقل ينظر إلى الخريطة يدرك حجم الكذبة وبعد المسافة واعوجاج المنطق والحجة، ولكن العقل العربي كان مريضًا يومها واشتدت عليه أمراض الظلم حتى اليوم، فشل العرب في الانتقال من عقلية الظلم إلى عقلية التحرير.
جاء الربيع العربي كمؤشر لتحرير العقل الجمعي الأكبر ضد جمهوريات صارت ممالك وحكم حكامها مددًا أطول من معظم الملوك، فقد تعاقب على القذافي ثلاثة ملوك سعوديين مثلاً وثلاثة على مبارك أيضًا ونفس الشيء بالنسبة للأسد وابنه، ومع ذلك كنا وبينما ننشد الحرية والتحرير، كنا نسير إليها سير العبيد، فأيد الكثيرون منا الديكتاتورية باسم الدين كبديل لديكتاتورية البندقية، ظنًا منا أن التحرير يأتي باستبدال ظالم بآخر واتهمنا الشباب الذين أرادوا الكرامة الإنسانية كما حالة غزو الكويت بالاستقواء بالأجنبي فظلم ذوي القربي أفضل من استجلاب مفاهيم غريبة كالعيش والكرامة الإنسانية، دع عنك الحرية، وما زال بيننا من يقول «ولا يوم من أيامك يا مبارك ويا قذافي ويا أسد» بعد أن سادت عقلية الغزو على عقلية التحرير، بعد أن ساد الظلم والظلم وسط أولاد العم فرحة، أو تحرير، بقلب المثل العامي القائل «الحزن وسط أولاد العم فرحة»، فالحزن حزن سواء كان وسط أولاد العم أو منفردًا وكذلك الظلم.
سادت عقلية الغزو، لنا الغزو والغزو المقابل، أي أننا نصفق لظلم على أنه أفضل من ظلم، ليتسيد السفهاء المشهد ويبدأ التأصيل الشعبي والفكري للظلم ويصدق الناس أن أسوأ ما في ثقافتهم هو جوهر وطنيتهم. عقلية الغزو تتسيد على ذهنية التحرر والتحرير.
تحرير الكويت ومعه تحرير العقل العربي من أمراضه بدت لحظة تبخرت بسرعة بمجرد خروج الأجنبي وحدوث التحرير، ولكن الأجنبي أيضًا أدرك أننا عقلية غزو لا عقلية تحرير، فعاد الأميركان ممن كانوا أنصار التحرير بالأمس كغزاة في 2003 وجاءت إيران غازية ومعها تنظيم الإخوان وبقيت إسرائيل غازية ومحتلة، فكيف لعقلية أساسها الغزو أن تقاوم الغزو بالتحرير، المقاومة دائمًا يقوم بها حر وليس ظالم، المقاومة ينشدها الحر من أجل حرية للجميع لا عبد يريد حرية لنفسه ويريد بعد التسيّد أن يشتري لنفسه عبدًا آخر.
انهار النظام العربي يوم انقسم حول أسئلة الظلم والعدل في غزو الكويت وتحريره. كان حسن الترابي والغنوشي وإخوان مصر في صف الظلم يوم غزو الكويت، فكيف تتوقع منهم أن يكونوا مع العدل في تونس والسودان، كان علي عبد الله صالح وياسر عرفات مع الظلم وأسمع أصوات تقول في داخلها لا داعي لإقحام عرفات في تلك القضية رغم دوره البارز يومها، ولكنها ذهنية الغزو وذهنية الظلم التي تخجل من الانتصار للعدل.
ربع قرن مر على التحرير وبقي الكويتيون وحدهم أصحاب الشأن يحتفلون بالتحرير، بينما الغالبية العظمى منا تراودها دقات أقدام الخيل وصهيلها القادم من بعيد نحو غزو جديد ومزيد من الظلم في رومانسية مقلوبة لتاريخنا العربي، تطربنا جحافل خيل الغزو على هدوء عقل العدل، ذهب ابن النفيس وابن الهيثم وابن رشد وهدوء العقل في زحام أصوات تتعالى بالجهاد لنصرة الغزو على حساب التحرير، التحرير بكل رمزياته من مصر إلى الكويت، وكل عام وأهل التحرير بخير، لتنتصر يوما ما عقلية التحرير على ذهنية الغزو. أو ينقذنا الله من بدائية العقل الثنائي.

التعليقات