أفضل المقالات في الصحف العربية
فضيلة المفتي والثقة الحضارية
هذا مقال كتبته منذ عشر سنوات عندما عين فضيلة الشيخ احمد الطيب مفتيا للديار المصرية، ومازال ما قلته عن الشيخ يومها صالح للآن فهو رجل بتحدي التصنيف فلا هو فلول كما يدعي أعداؤه ولا هو ثوري كما يدعي من يناصرونه. انه رجل دين معتدل يمثل افضل ما فينا. عرفته عن قرب بحكم الجوار الجغرافي وأننا بلديات وعرفته مفكرا اتفقت واختلفت معه وكان متسامحا. فالي المقال ليعرف البعض مالا يعرفونه عن الشيخ
هذه هي المحاولة الخامسة لكتابة هذا المقال عن فضيلة المفتي الجديد للديار المصرية, فضيلة مولانا الشيخ أحمد الطيب, فكلما كتبت شيئا وجدته لايليق وقطعت الأوراق من بعدها, والذي اقترب من حضرة الشيخ اوزار مقام والده في قرية القرنة في البر الغربي المقابل لمدينة الأقصر ادرك مغزي التردد في الكتابة ومعناه( والقرنة للذين لايعرفون كيف تنطق هي(GORNA) وحرف القاف فيها ينطق باللهجة المحلية كما ينطق أهل القاهرة حرف الجيم في كلمة مثال جمال.. ومصادر هذا التردد أو ربما سمه خوفا من الكتابة عن الشيخ متعددة فبرغم انه سمح لي بالكتابة,فإنني اعرف انه رجل زاهد في الدنيا وراغب عن متاعها وربما أذن لي بالكتابة عن فضيلته تكريما لي لادعاية له فسمه من سمات آل الطيب وليس فضيلة المفتي وحده انهم قوم لايحبون اطراء أو مراء, فرسالتهم منذ الشيخ الجد والذي يرجع تاريخه الي فترة1720 فيما استطعت توثيقه في منطقة غرب الأقصر كانت رسالة تدعو إلي التواضع والحض علي مكارم الاخلاق التي اتي بها ديننا الحنيف, مصدر آخر لهذا التردد هو معرفتي بأن هناك الكثيرين ممن سيقرأون هذا المقال وهم يعلمون عن فضيلة المفتي الكثير من الخصال والصفات, ربما يرمونني بظلم أو اختزال لشخص فضيلته, ولكن ما هذا بمقام الحديث عن شخص المفتي, ولكنني سأحاول أن أوضح لمن لايعرفون فضيلته لماذا كل هذه البهجة بوجود عالم كهذا علي قمة مؤسسة الافتاء في بلد عريق كمصر خرج لها الأزهر قمما كثيرة في واسع علوم الدين.
1ـ المكان: رحابه افق ورحابه صدرالزائر إلي قرية القرنة القديمة تلك القرية الواقعة بين معبد حتشبسوت جنوبا ووادي الملوك والملكات ومدينة هابو, هاله ان يري هذا الامتداد الضارب في الزمان, ولن أقول ان القرية متقدمة فالخارج من مقبرة وادي الملوك يري لوحات جدارية للمصري القديم يحرث أرضه ومن خلفه زوجته وابناؤه يبذرون الحب, يري نفس المنظر تقريبا في مزارع القرنة اليوم مع اختلاف طفيف في الملبس, ولايعني ذلك اننا تجمدنا في الزمن, ولكن ما أود ايصاله هنا هو عامل الاستمرارية التاريخية, لاتستطيع في هذا المكان ان تتحلل من كونك إبنا لهذه الحضارة الضاربة في القدم, وأول ما تعطيه تلك المشاهد الفرعونية لكل أطفال هذه المنطقة وشبابها هو ما سماه عالم الاجتماع العربي والمؤرخ الأشهر, ابن خلدون, بالثقة الحضارية لذا لاتجد أهالي تلك المناطق ينبهرون بالغرب مثلا, ولكن يقدرون انجازاته هم راسخون كرسوخ الجبل إلي الغرب كذلك فيهم ليونه وسماحة النيل إلي الشرق, في قلب هذا الوادي القديم وبالقرب من معبد حتشبسوت وكذلك الرمسيوم( معبد رمسيس) توجد ساحة آل الطيب, ساحة يقصدها أهل التقوي وطلاب العلم الديني منذ القدم, في هذا المكان عاش المفتي كثيرا من حياته, والقادم لزيارته في هذا المكان لاتفوته ملاحظة أولية اساسها اتساع الافق في اتجاه الغرب وذلك التكثيف الحضاري شرقا كلما اقتربت من النيل, لذا تجد أول ما تجد في آل الطيب, سواء كان فضيلة المفتي أم شيخنا الشيخ محمد الطيب, أول ما تجد فيهم هي صفات اتساع الافق ورحابة الصدر والثقة الحضارية التي اخفي المكان بها علي تكوين الشخصية, اما تهذيب النفس والورع الناتج عن العلم الديني والتصوف وكونهم امتدادا لآل البيت في تلك البقعة من هذا الوطن المبارك, عن هذا التهذيب وعن الورع, وعن مخافة الله والتحرج من الظهور بمظهر قد لايرضي الله ولارسوله, فحدث ولاحرج.ولن يقدر الإنسان هذه الاخلاق وهذه السماحة الا إذا وجد في حضرة الشيخ وفي ساحته واستمع إلي حلو حديثه, وغزير علمه ولمح علي وجهه الخشوع وأحس ببركة لاتدري أهي من المكان أم من الشيخ.
2ـ الحوار والحب والإخاءعندما تزور الشيخ في مكانه تري عجبا تري السائح المقبل من فرنسا والمانيا وأمريكا قاصرا زيارة الشيخ بعد ان يزور المعالم الفرعونية للمنطقة تدخل إلي الساحة سيدة تحاول التعرف علي الإسلام, فلا يردها الشيخ أو أي من تلاميذه أو مريديه لانها لاتلبس زيا إسلاميا, يجلس الجميع ومقصدهم الأول هو الحوار, ولايضيق صدر الشيخ بسؤال ولايفعل ذلك مع الاجانب فقط, هو أيضا محب لأبناء وطنه ممن لايدينون بدينه, وكذلك يكون تاريخ أسرته الممتدة.لفت نظري عندما كنت في زيارة لمصر في منتصف هذا الشهر, ان الذين ذهبوا إلي ساحة الشيخ لتهنئته بالمنصب الجديد كانوا من مسيحيي الأقصر ونقاده والمراكز المجاورة وعندما حدثوني عن الشيخ كانت تعلو وجوههم ابتسامة فرح تنطلق من اعماق الروح يتحدثون عن رجل من بيت تقوي يحتكم اليهم المسلمون والمسيحيون في ذات الوقت في امور دنياهم. لذا يرضي أهل تلك البقعة من أرض مصر, ومنذ زمن باحكام وفتاوي آل الطيب في امور دنياهم سواء اكان السائل مسيحيا أم مسلما, والطيب أظنه لقبا لا اسما اعطي لهذا البيت لتأكيد صفة اجمع عليها كثيرون وما فرحة المسلمين والمسيحين في منطقة الأقصر بالمفتي إلا تسيس لشعار الوحدة الوطنية, هي بالفعل احساس وجداني وحب لسماحة هذه الأسرة التي تعد من أهم عوامل الاستقرار في تلك البقعة من أرض مصر.
3ـ زيارة للشيخفي عام1998 كنت في زيارة للشيخ في ساحته في القرنة وبينما كان المكان يغص بالبشر ذهبت للجلوس الي جانب الشيخ, وكنت ايامها مهتما ببحث تاريخي عن دور هذا البيت في القرن الثامن عشر في تاريخ المنطقة وقادني الي ذلك البحث بعض رسائل الرحالة الغربيين وخصوصا الانجليز والالمان منهم لمنطقة جنوب الوادي.وجلست الي هذا الشيخ وتصورت ان الكتب التي امامه اما ان تكون في مسائل فقهية محددة أو في إطار الفلسفة الإسلامية التي كنت اعرف انها تخصصه الدقيق, ولكنني وجدت مجموعة كتب للفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري ودار بيننا نقاس عن مشرب الجابري ومنهجية والتي رأي الشيخ انها متأثرة بالمدرسة الفرنسية خصوصا أعمال الفيلسوف البنيوي ميشيل فوكو وكان بيننا توافق علي هذه الملاحظة كنت اعرف عن اتساع أفق الشيخ وكذلك عن دراسته في فرنسا وعن معرفته باللغة الفرنسية, ولكن كنت أظن انه سيوظف ذلك في إطار علوم الدين وحسب, ولكن هالني ما رأيت من اتساع معرفة وعمق في العلوم الاجتماعية ومدارسها الفلسفية الغربية وتذكرت عنوانا لكتاب كنت قد قرأته بالانجليزية لكاتب اعرف انه يحبه وهو الأستاذ ميشيل شيدكوفج مؤلف كتاب( محيط بلا شطآن) عن شيخنا ابن عربي والذي وضع له عنوانا جانبيا( ابن عربي, والكتاب والقانون) كنت جاهزا ليلتها للحديث مع فضيلة الشيخ كما يحلو لنا ان نسميه قبل ان يصبح مفتيا للديار كنت جاهزا للحديث عن( الفتوحات المكية) ولكنني وجدت نفسي محاصرا بالحديث عن الجابري ومشروعه الفكري في نقد العقل العربي والعقل السياسي الغربي إلي آخر هذه المجموعة التي نشرها مركز دراسات الوحدة العربية, تحس وانت تتحدث الي فضيلة الشيخ باشياء كثيرة أولهما أنك تتحدث الي رجل علم ورع لايقصد من حديثه مباهاه وانما يسأل فيجيب ويسأل من حوله بهدف المعرفة, فيه من مكارم الاخلاق مايتغني به كل من عرف الشيخ كان ليلتها يعامل البسطاء والعلماء بإسلوب يجبر الجميع علي الإنصات اليه.ولفضيلة الدكتور أحمد الطيب ولآل الطيب جيمعا ومنذ القدم مريدون ومحبون يتبعون طريقتهم الخلوتية يزيد عددهم علي مليونين في محافظات الوجه القبلي( أسيوط وسوهاج وقنا والبحر الأحمر وأسوان) كل هؤلاء كانوا يأخذون فتواهم من الشيخ الطيب الكبير, رحمه الله ثم بعد ذلك من فضيلة الشيخ محمد من بعده, وها نحن نأخذ فتوانا رسميا من فضيلة الدكتور أحمد الطيب. وهو رجل يتمتع برجاحه عقل, وغزير علم, وسماحة وكذلك طيب معشر, معتز بدينه ولكنه منفتح علي الآخر دونما غرور في إطار وجادلهم بالتي هي أحسن انه الرجل المناسب في المكان المناسب وفي الزمان المناسب فهنيئا للمسلمين به.
4ـ المفتي والحوار مع الغربيأتي تعيين الدكتور أحمد الطيب في وقت عصيب بالنسبة للمسلمين ولا أقول بالنسبة للإسلام, ذلك من منطلق ايماني بان للإسلام ربا يدافع عنه انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون وان للبيت ربا يحميه, اما حال المسلمين فهو ما يدعو للقلق في تعاطيهم مع جسام الاحداث وعلوم حديثه تدعونا الي مزيد من التفكر في علاقة الدين بالعلم وعلاقة المسلم بغير المسلم هذا الحوار مع الآخر لايقاس بطول اللحي أو بالتشنج أو بغلو في الدين هذا الحوار يتطلب مسلما واثقا لامسلما مر تعدا متشنجا مسلما يقدر الآخر ولايها به أو ينبهر به, وكذلك كان المسلم عندما كانت له ثقة حضارية في الاندلس وغيرها كان المسلم واسع الافق رحب الصدر لايضيق بمن يخالفونه في العقيدة, الشيخ الدكتور ومفتي الديار لديه هذه الثقة الحضارية قادر علي الحوار مع الآخر دونما تفريط, حلو الحديث منسا به كماء النيل, راسخ في علمه كرسوخ جبال الأقصر, حيث الاصل في الحوار هو اعتداد بالنفس وادراك لحدودها دونما تقليل من شأن الآخر, المفتي فاتحة خير لحوار بناء, والقادر علي تليين عريكة أهلنا في الصعيد غالبا مايكون قادرا علي الحوار مع أي إنسان كان.