مصر الكبرى
اسرار الحروف : تجليات جنوبية وشخصية أيضاً
يقال في الأساطير إن الله خلق العالم من اثنين وعشرين حرفا، ومن اثنين وثلاثين سفرا من أسفار الحكمة، ومن الأسفار خلق الله الأشياء المجردة، ومن الحروف خلق الكائنات الأخرى، وخلق كذلك ثلاثية المكان والزمان والإنسان. ومن يستطع توليف الحروف بشكل مناسب يمكنه محاكاة الخالق في الخلق، هكذا تقول أسطورة سفر الجزيرة في التلمود. وقيل إن طالبين من طلاب العلم كانا يقرآن سفر الجزيرة في الصحراء بعد أن بلغ منهما الجوع والعطش مبلغه، ولما تصادف في قراءتهما أنهما استطاعا توليف الاثنين والعشرين حرفا، خلق الله لهما عجلا صغيرا وإلى جواره جرة ماء باردة، فطبخا العجل وتعشيا به، وشربا من الجرة حتى ارتويا. فالحروف أسرار، لا نعرف منها إلا النذر القليل. وللأسماء أسرار، ففي الصوفية يلقن الشيخ المريد أسماء من أسماء الله الحسنى قد يصل بعضها إلى سبعة في أحسن الأحوال، وما أن يصل المريد إلى اسم قيوم، حتى يفتح الله عليه ويعلمه من علوم البرزخ، تلك المسافة ما بين عالم الدنيا وعالم الآخرة. ومن حروف أهلي التي أكررها كل يوم تطوف حولي كائنات ذات ألوان جميلة أعرف بعضها تأتي كفراشات تطير حولي ولا أعرف الآخر منها، لكنها بهجة التذكار، واذكر اسم ربك في العشية والإبكار، عسى أن يكون في ذكر بعض الحروف فتح لبوابات وكشف لأسرار.
ذات يوم خطت العرافة في القرية بإصبعها في الرمل، رسمت خطوطا ظهرت أمامي كخطوط الأحلام، بدت وكأنها تخفي نصا بداخلها، ثم هزت في يدها سبع حبات من نوى البلح، وألقتها بين الخطوط. كنت أعرف أن النواة إذا قلبت على ظهرها وظهر الخط الفاصل فيها فهي تمثل امرأة متزوجة، وإذا مالت على جنبها فهي تمثل فتاة بكرا، أما إذا كان اتجاه الخط الفاصل نحو التراب وكان ظهر النواة مقابلا للسماء فهي تمثل رجلا أو فتى، ونظرنا فكان هناك من النساء اثنتان، ومن الرجال خمسة، لكن لدي أخت واحدة وأربع إخوة، فلم أفهم ماذا يقول النوى وجلست أنتظر تفسير العرافة التي قالت إن النوى إذا ما اجتمعت منه حبتان فهذا جواب مكتوب، وإن تجمعت ثلاثة كان هذا كلام نسوان، ونظرنا فكان هناك جواب وكلام نسوان أكثر مما يجب. لكنها نصحتني بألا أقلق، فالجواب المكتوب فيه حظ، وهذا ما تتحدث عنه النسوان. قالت يا ولدي إن الله خلق العالم هناك فوق ولا ينزل إلينا إلا من خلال النوى، وكلما نتحدث عنه يقترب منا وينزل إلى الأرض. إذن، الدنيا كلام معلق هناك لا ينزل إلا بالحديث، وكيفما نتحدث عن الدنيا تنفرد أمامنا كلفافة من القماش، كلام الخير يخلق عالما خيرا، وكلام الشر ينتج عالما شريرا، إننا نصنع عالمنا، فإن نطقنا بكلام سعيد جلب لنا السعد، ألم يقل إن «النطق سعد».. أنا مقتنع بأن العالم هو ما أتكلم عنه، الكلام الطيب يجعل عالمي طيبا، والكلام القبيح يجعله قاسيا وقبيحا، وهكذا أسير من يوم أن خطت المرأة الخطوط على الأرض، أتحدث عن عالمي كي يوجد.. وهذا هو سر وجودي وربما هو سر وجود الآخرين، ولكن كثيرا من الناس لا يعلمون.