مصر الكبرى

02:20 مساءً EET

الثورة لم تحدث

في عام 1991 كتب فيلسوف الفيمنولجي جان بودريار أن حرب الخليج لم تحدث، وقال يومها إن الحدث كان على الشاشات أكثر من كونه حدثا على الأرض، وكان هناك شيء من المبالغة في العرض، فبالفعل كانت هناك حرب لتحرير الكويت، والنتيجة أن الكويت تحررت، وهزم جيش صدام، ومع ذلك كانت ظاهرة الإعلام طاغية في تلك الحرب مما جعلها حربا إعلامية قبل أن تكون حربا على الأرض في بعض لحظاتها. فهل ينطبق مفهوم بودريار عن حرب الخليج على الثورات العربية، ويمكننا القول بأن الثورة لم تحدث؟ ظني أن طغيان الإعلام على موضوع الثورة أكبر بكثير مما حدث في حرب الخليج، لأن الإعلام تطور من ناحية التواصل والتوصيل، رغم أن المحتوى واللغة لم يتغيرا، أي لم تحدث ثورة لا في الإعلام ولا في المفردات المستخدمة، ومن هنا ومن زاوية الإعلام وحدها يمكننا القول إن الثورة لم تحدث.

الثورة لم تحدث، بمعنى أنه لم يحدث أي تغيير في البنية الفكرية والثقافية للمجتمعات العربية.. ذات اللغة وذات المفردات. حدثت الثورة في مصر بمعنى «شلناه»، أي غيرنا مبارك، أو غيرنا بن علي، أو علي عبد الله صالح.. لكن هل اتسعت مساحة الحرية بمعناها الواسع؟ بالطبع لا، فالتضييق على المرأة ربما زاد عما كان أيام الديكتاتورية، وكذلك التضييق على الرجل، وانتقلنا من ديكتاتورية الفرد إلى ديكتاتورية المجتمع، وسيطرة التيارات القاهرة للحريات الشخصية.
مهم أن نعي أن الديكتاتورية عندنا في بلاد العرب ليست ديكتاتورية فرد، وما كان ديكتاتور يستطيع أن يحكم كل هذه المدة لولا أن ديكتاتورية المجتمع تقف إلى جانبه وتسانده. فالديكتاتورية في بلداننا لم تكن ديكتاتورية فرد كما يظن، أو أنها تعاني من تركيز السلطة في بؤرة الحكم.. الديكتاتورية كانت ديكتاتورية موزعة، شيئا أشبه بالماء الذي تتشربه الإسفنجة المتمثلة في شبكة علاقات عائلية قائمة تتحكم في رقبة المجتمع. تفسير السلطة أو القوة بالشبكة الموزعة في المجتمع هو بداية الفهم، والدعوة لتركز السلطة في يد واحدة هي بداية الضلال والتضليل.
الديكتاتورية في مصر كانت نظاما كاملا له دعائمه: الأب في البيت، إلى عمدة القرية، إلى رئيس الحي، إلى المحافظ، إلى رأس الدولة. كان المجتمع متشربا للديكتاتورية، وكانت التيارات برمتها متورطة فيها حتى الرقاب.. الإسلامي والاشتراكي سيان في هذا.. مرشد الجماعة ومبارك ورئيس حزب الشيوعيين، كلهم من القماشة ذاتها. إذن لكي نتحول إلى الديمقراطية مطلوب ناس جديدة.. «ومنين أجيب ناس؟!».. مطلوب لغة جديدة، ونوعية جديدة من العلاقات، وكل هذا لم تولده الثورة. ومن هنا الثورة لم تحدث.
ما زال عرب الثورات هم عرب نعرات وعصبيات، لا عرب ترابط بناء على توجهات فكرية، حتى من يتحدثون عن «الإخوان» وعن السلفيين والجماعات الإسلامية، فكلها أحاديث تتناول العلامة الدالة علي الشيء وليس أصله.. فـ«الإخوان» والجماعات إذا فككت مشروعهم إلى عظامه العارية فأنت أمام قبائل وعائلات بعينها ضد قبائل أخرى وعائلات أخرى تتخذ من الإسلام غطاء، وليس لها من الإسلام سوى قشرة تغطي الوجع القبيح لمصالح قبلية لا تقل قبحا.
ليس معنى هذا أن الاستبداد والديكتاتورية هما مصيرنا، أو أن الثورة غير قابلة للحدوث في مجتمعات متخلفة أو في مجتمعات ما قبل الحداثة، لكن المبالغة في الاحتفالية بالربيع العربي أمر يحتاج إلى تفكير وتفكيك، فما خرج من الجامع سيعود إلى الجامع، وما خرج من القبيلة قطعا سيذهب إلى القبيلة، ومصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن ليست استثناءات في هذا.
الثورة لم تحدث، ليس لأن المجلس العسكري في مصر يتحكم، أو أن عواجيز الناصرية والساداتية والمباركية هم من يترشحون للرئاسة في مصر اليوم، فهؤلاء مجرد عرض لمرض أكبر، وهو عدم قدرة العقل العربي على الانتقال من حالة العادة والعبادة إلى حالة التغيير والثورة.
لست مستشرقا، أي أتبنى مقولات العقل العربي على علاتها، لكنني أعني الثقافة السائدة في العالم العربي، وهي ثقافة أقرب إلى ثقافات عصور الانحطاط ولكن بمكبرات الصوت وأضواء الشاشات، أي على عينك يا تاجر.. فجور في الجهل أظن أن تاريخنا العربي لم يتعرف عليه من قبل. وهنا يمكن أن نقول إن الثورة قد حدثت، لكنها حدثت في المبالغة في الفجور والتحول. فذات الممثلين يقومون بأداء المسرحية ولكن بنص أكثر رداءة، وربما تولى بعض الكومبارس القيام بدور البطولة.
الثورة لم تحدث لأن الثورة تحدث في العقل أولا، وحتى هذه اللحظة في تونس أو مصر أو سوريا أو ليبيا أو اليمن لم تحدث أي ثورة في العقل، لا ثورة في المفردات ولا في اللغة أو حتى في طريقة التناول.
أتيحت لي فرصة الاقتراب من المشهد الإعلامي مثلا في معظم دول الثورات، وما لاحظته كان نوعا من التحور في مفردات أشبه بتحور الفيروسات ضد المضادات الحيوية من أجل الاستمرار في نهش جسد الثقافة وجسد الوطن.. لا أمصال هناك ضد اللغة.
الثورة لم تحدث لأنها كانت ثورة بأدوات حديثة في مجتمعات ما قبل الحداثة. حدثت الثورات في أوروبا لأنها كانت مواكبة بالفكر، فمثلا عندما ظهرت نظرية النسبية ومن بعدها «الكوانتم» في الفيزياء، تعرف الغرب على نوعية جديدة من علاقة الإنسان بالحقيقة.. الحقيقة النسبية في حالة أينشتاين، والحقيقة غير المعروفة في حالة «الكوانتم». في مصر ظهر عالم مثل أحمد زويل يتحدث عن الزمن، في نقلة نوعية في الحديث عن زمن الحداثة في أدب مارسيل بروست في فرنسا، وويليام فوكنر في أميركا.. الزمن المتقطع لا الزمن المستمر. لكن الرجل المصري الذي يتحدث عن زمن غير الزمن ما لبث أن عاد إلى الزمان التقليدي. الحداثة الأوروبية حدثت في الفلسفة والفن والعلوم، ولذا عندما قامت الثورة كانت مدعومة بمنظومة فكرية تسندها، أما عندنا فالثورة كانت مدعومة بديكتاتورية أخرى، ولهذا لم تحدث.
الحديث كثير عندنا بأن مشكلة الثورة في مصر أو حتى في تونس، وغيرهما، هي أنها ثورات من دون قيادة تدعمها، وهذا غير صحيح.. هي ثورات من دون دعم فكري أو علمي يسندها.. ثورات إزاحة أفراد لا إزاحة وتغيير أفكار. ومن هنا الثورة لم تحدث.
تحدث الثورة عندما تتغير المنظومة القيمية الحاكمة للمجتمع، ولا تحدث لا بالشباب ولا بالشيوخ. الثورة هي تغيير نص المسرحية التي نؤديها على خشبة الحياة كل يوم، لكننا بعد الثورة نؤدي النص الديكتاتوري ذاته بممثلين جدد. ومن هنا الثورة لم تحدث. الثورة لم تحدث بمعنى أن التغيير في العلاقات الحاكمة والتغيير في القيم لم يحدث، ما حدث هو إحلال البلطجية القدامى ببلطجية جدد يظنون أنهم يتحدثون لغة ثورية، رغم أن شعر المتنبي أكثر حداثة مما يكتبون اليوم، وأفكار المعتزلة أكثر حداثة مما هم فيه الآن، وأفكار ابن رشد أكثر حداثة وثورية. ولكل هذه الثورة لم تحدث، وربما قد لا تحدث قريبا أو في حياتنا.

التعليقات