آراء حرة
عبد الرازق أحمد الشاعر يكتب: عذرا آل مضايا
لم يعد صوت الشيخ المبحوح يطرب، ولم تعد سبابته تحرك الجماهير المغلوبة على حمقها .. فقد سقطت العمامة، ولم يبق من جسده المهتز إلا كرش وعباءة، وذكريات لن تنمحي من ذاكرة السوريين. يمكن لسماحته اليوم أن يرتقي المنبر كما تعود، وأن يرفع عقيرته وسبابته بين كل ادعاء وفرية، لكن أحدا بعد اليوم لن يصدق أن الشيخ يحمي الجنوب أو أنه يدافع مع الروس عن البيت وآله، أو أنه يحاصر بني أمية في مضايا ليعيد الخلافة إلى مهديه الذي لم يعد ينتظره أحد.
في مضايا، ينتظر السوريون من يحفر لهم قبورا لأن الغربان التي تحوم في سماء البلاد لم تعلم الشريف حسن نصر الله كيف يواري سوأة أخيه، كما لم تعلمه كلاب كسرى وذئاب الروم الوافدة من كل فج عميق أن للأسير حق وإن كان سوريا، وأن للدماء ثمن وإن تأجل حتى حين.
في مضايا، يواصل المواطنون ركضهم اليومي خلف الكلاب الضالة والقطط الهزيلة بعد أن غطت الثلوج الحشائش وأوراق الشجر الذابلة التي ظلوا يقتاتون عليها سبعة أشهر من الحصار. أما جنود حزب الله الذين جاءوا من أقاصي المدن ليدافعوا عن الحسين، فلا يسمحون لتلكم الهياكل بالتجول الحر هناك، وفي قرى صارت كالأقفاص التي لا يرمي داخلها الحراس بقشرة موز أو حبة لوز، يواصل السوريون التدافع بالمناكب لتدوين أسمائهم في سجلات الراحلين.
في شِعب مضايا، لا نكاح ولا بيع ولا شراء ولا صلح ولا رأفة ولا صحيفة تأكلها القرضة. هو الموت، والموت فقط. وعلى السوري رهين المحبسين أن يختار جوعا يأكل لحمه وينهش عظمه، أو رصاصة طائشة يطلقها حارس صنديد من حراس الحدود وحاملي المباخر. والموت في الحالتين كلتيهما أرحم من حياة العبيد في ظل حاكم لا يسمع إلا صوته، ولا يرى في مرآة الكون إلا وجهه الصفيق.
المواطنون في كفريا وفوعة في الهم أيضا شرق، لكنهم أوفر حظا من مواطني مضايا، لأن المتمردين هناك يسمحون بين الحين والآخر لعربات الإغاثة المحملة بالدواء والغذاء بالمرور من بين أكتافهم المقددة. لكن أبناء البلدتين الشيعيتين قطط غير سمان في أيام تخلف عجاف تمر على أمة هزيلة لم تعد تخيف إلا أبناءها.
تنتظر شاحنات الإغاثة إشارة من إصبع سماحة السيد الذي لطالما رسم بخطوط بهلوانية في الفضاء العربي المستباح خطوط طريق لأمة ضلت كل طريق، وينتظر أبناء الصليب الأحمر أن يتوقف أبناء الهلال الدامي هنيهة يلتقط فيها المتقاتلون باسم الله أنفاسهم ريثما تصل علب الحليب إلى من يستحقها من أطفال لم يعودوا كالأطفال، لكن الواقفين على حدود ليست لهم، والذين تجاوزوا كل حدود يرفضون إلقاء أسلحتهم لأنهم جند الله الذين ابتعثهم الله ليخرجوا الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
يقاتل سماحة السيد أطفال مضايا بعد أن فرغ من حوامات اليهود وعربات جندهم التي تطوق الجنوب اللبناني وتستبيح مزارعه وتلاله، ويقف جنود حزبه فوق تلال من أجساد غضه ليرفعوا راياتهم السوداء بعد أن انتصروا لعترة النبي ممن استباح مقدساته وانتهك ما حرم. وفي عهد الفتوحات الباطلة، ورايات النفاق السود، يواصل الإسلام التقهقر داخل حدوده، ويزداد الدين غربة في نفوس الناس، ليعود الإسلام غريبا كما بدأ، ويتحول المسلمون إلى وليمة مقززة بلا مرق ولا رائحة.