كتاب 11
السعودية وتحدي الإعلام الغربي
تعصف بالمملكة العربية السعودية اليوم حملة إعلامية شعواء من قبل الصحافة الغربية، من الرصين مثل «الإيكونوميست»، و«نيويورك تايمز»، و«واشنطن بوست»، و«لوموند»، إلى الأقل رصانة مثل «الغارديان»، و«الإندبندنت»، و«التليغراف»، إلى «التابلويد» مثل «نيويورك بوست».
وليست السعودية وحدها التي تتعرض لهذه الحملة، بل بعض الدول العربية الأخرى، ولكن أشرسها الآن موجه إلى المملكة، ودائما ما يسأل السعوديون والعرب عن كيفية التعامل مع هذه الحملات وأنجع السبل لمواجهتها، هل هو التواصل الاستراتيجي (strategic communication) أم التواصل الجماهيري مع الإعلام؟ هل من خلال رسالة استراتيجية عامة أم أن كل دولة يخصص لها برنامج تواصل إعلامي حسب طبيعتها وظروفها؟ ويظن البعض منا أن مسألة تحديات تصحيح الصورة لدى جمهور مختلف هي أمر جديد على المملكة والدول العربية، فرضته أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 وما تلاها من ربط صورة المسلمين والعرب والمملكة بالإرهاب، والتي كان أحدثها وليس بآخرها حادث برناردينو بولاية كاليفورنيا والذي قام به أميركيون من أصل باكستاني، حدث أنهم زاروا المملكة العربية السعودية، ليرتبط الحدث باسم المملكة.
في هذا المقال أود أن أذكر القارئ أن هذه التحديات ليست بجديدة على المملكة العربية السعودية، وأنها كانت موجودة حتى قبل اكتمال بناء المملكة، وتعامل معها الملك عبد العزيز بطريقة ذكية قد يكون من المفيد التعلم منها والبناء عليها. وهنا سأنقل من وثيقة تاريخية (خطاب من عبد العزيز بن عبد الرحمن آلِ فيصل إلى جون فيلبي ممثل المخابرات البريطانية لدى وزارة المستعمرات). كيف تعامل عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود عندما كان يلقب بسلطان الحجاز ونجد وملحقاتها، مع الرأي العام الغربي لنرى هل نحن نتقدم أم نتأخر في التعامل مع مثل هذه القضايا؟ وهل يمكن تطوير نموذج تعامل الملك عبد العزيز مع الغرب أم نقوم بشيء آخر جديد؟ سياق الخطاب الذي أرسله سلطان الحجاز ونجد وملحقاتهما كان الخلاف بين عبد العزيز وفيصل بن الحسين حاكم العراق على ترسيم الحدود بين السعودية والعراق، وكانت جوترد بيل ممثلة بريطانيا في هذه القضية صديقة للملك فيصل بن الحسين، أي منحازة للهاشميين، جاءت لتتناقش مع الملك وتم ترسيم ما يعرف الآن بالمنطقة المحايدة، ولكن عبد العزيز رأى أزمة في فهم البريطانيين لما يحدث، فكتب الخطاب التالي:
من عبد العزيز بن عبد الرحمن آلِ فيصل إلى الصديق العزيز المستر فيلبي حفظه الله
التحية والاحترام وبعد، فإننا لله الحمد بخير وعافية ونشكر لكم ما تبدونه على الدوام من العواطف الودية نحونا وما تعملونه من نشر أفكاركم وآرائكم في الدفاع عنا في كل موقف، وأعتقد أنكم ترغبون في هذه الأيام الوقوف على ما بيننا وبين العراق من أسباب الخلاف الذي نشرت أخباره في الخارج وعلى غير حقيقتها، ولا بد أن يوسف ياسين سيكتب لكم خلاصة ما لديه من الأنباء في هذا الشأن، ويهمنا جدًا أن تعلم الحكومة البريطانية والشعب البريطاني الحقيقة كما هي لئلا يسيروا على غير علم وراء ما يزينه وينشره أرباب الأغراض الذين لا يبالون بما تنتجه أعمالهم من المساوئ للبلدين، وإننا على الدوام نترقب أخباركم ونرجو لكم التوفيق في أعمالكم. وتفضلوا بقبول فائق احتراماتنا. (27 شعبان 1436هـ).
قرأت هذا الخطاب بخط السكرتير الخاص للملك عبد العزيز يومها وهو السيد يوسف ياسين، والذي أصبح بعدها رئيس الشعبة السياسية التي تساوي مستشار الأمن القومي، ثم نائبا لوزير الخارجية تحت الأمير فيصل بن عبد العزيز، وقد أطلعني على الخطاب مشكورا السيد حسان ابن يوسف ياسين. ولكن تحليل هذا الخطاب كاشف لسلوك عبد العزيز آل سعود تجاه أزمته مع بريطانيا والإعلام البريطاني.
واضح من الخطاب أن الملك عبد العزيز كان يدرك أنه ليس عليه فقط إقناع الحكومة البريطانية، بل كما قال «.. أن تعلم الحكومة البريطانية والشعب البريطاني» أي أنه كان مدركا أن الرأي العام (public opinion) أمر مهم، ولا يكفي فقط أن يقنع الحكومة البريطانية بسلامة موقفه ويسكت.
ثانيا: إن يوسف ياسين (الذي كان مستشارا خاصا ومستشار أمن قومي) سيعطي فيلبي (brief) بالتفاصيل، وهذا ما تسميه الإدارة الأميركية وكثير من الدول الغربية (background briefing).
ثالثا: إن ترك الأمور تسير على ما هي عليه سيضر بمصلحة البلدين.
إذا ما علمنا أن جون فيلبي كان عميلا للمخابرات البريطانية، وعميل هنا تعني موظفًا يسمى (agent) ونحن نترجمها عمالة، فهنا يكون لعبد العزيز آل سعود أناس في داخل الحكومة يتواصل معهم استراتيجيًا.
إن ما تحتاجه المملكة العربية هو أناس يقومون بما كان يقوم به المجموعة المحيطة بالملك عبد العزيز من رجال لديهم القدرة على إعطاء الخلفية للأحداث والتواصل المباشر مع من يصنعون الرأي العام من أهل البلاد المستهدفة، وهذا يتطلب وحدة تواصل استراتيجي مثلما تفعل الدول الكبرى. فالولايات المتحدة بكل عظمتها تقلق عندما تتغير صورتها لدى الرأي العام العالمي، ولذلك كونت بعد حرب العراق ما يسمى strategic communication unit أو وحدة التواصل الاستراتيجي التي تحت إمرة الرئيس في البيت الأبيض. لا أقول إنه كان لعبد العزيز آل سعود وحدة تواصل استراتيجي، ولكن ما قام به حسبما يكشف هذا الخطاب هو ما تقوم به أفضل وحدات التواصل الاستراتيجي، أو نواة لأفضل الوحدات.
الهدف من وحدة التواصل الاستراتيجي هو تلبية احتياجات التحديات الاستراتيجية للمملكة في تفاعلاتها مع العالم وما يلتصق بها من أفعال المسلمين التي تؤثر على دولة أساسها هي أنها قبلة المسلمين.
صورة المملكة وتسويقها مثلها مثل تسويق أي منتج يحتاج إلى أربعة أمور أساسية:
1 – صياغة الرسالة الإعلامية بصورها المتجددة التي يشارك في رسمها القيادات والمسوقون والمشرف على وحدة التواصل الاستراتيجي.
2 – الإلمام الكامل والوافي بمميزات المنتج المطلوب تسويقه، بأبعادها الأمنية والسياسية والاقتصادية والسياحية والثقافية.
3 – اختيار من أطلق عليهم مجازًا اسم عملاء التسويق بانتقائية تامة تحكمها معايير الكفاءة والقدرة والمصداقية العالية والقبول في الوحدة الفرعية للعمل.
4 – الإلمام بالسوق التي سيسوق فيها المنتج والمواصفات التي تلقى القبول في السياقات المحلية المحددة (واشنطن، لندن، باريس، وغيرها).
التحديات التي تواجه المملكة وستواجهها كبيرة وتحتاج إلى البناء على رؤية الملك عبد العزيز في التواصل الاستراتيجي. والملك سلمان كما نعرفه هو الحارس لترات المؤسس، وخطاب كهذا قد يضيف بعدا آخر لرؤيته في طريقة التواصل الاستراتيجي مع العالم.