كتاب 11

09:13 صباحًا EET

الرد الغربي بعد باريس

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001 دفع الأميركيون حكومتهم لشن حرب على العراق كنوع من الثأر للكرامة الأميركية، فهل تفعل فرنسا الشيء نفسه بعد أن ضرب «داعش» باريس في سبعة تفجيرات متزامنة راح ضحيتها ما يقرب من مائة وستة وعشرين شخصا؟ رأينا أن فلسفة حرب العراق التي كانت بمثابة (اضرب واهرب) hit and run أدت إلى تفاقم الأزمة في الشرق الأوسط، كما أن ردة فعل التحالف الدولي تجاه «داعش» والإرهاب في سوريا والعراق أيضا لم تأت بنتيجة تذكر؟ فهل سيكون الاستعمار المباشر طويل المدى هو الحل لانهيار الدولة في سوريا والعراق واليمن؟ هل سيعود التفكير الأوروبي إلى القرن الماضي والتركيز على الوجود على الأرض بالطريقة القديمة، أم أنه سيكرر ما فعله الأميركيون في العراق وأفغانستان؟

أم أن الغرب بعد باريس سيلجأ إلى تدابير أمنية في الداخل واتباع سياسة (دع الشرق الأوسط لأهله) وترك هذه المنطقة تموج في الحروب الأهلية والتحولات الثورية؟

من يعرف ديناميات الدول الغربية اليوم يحس أن الغرب قد فاض به الكيل تجاه منطقتنا، وأن الغرب اليوم يتنازعه تياران: الأول هو «دعهم يقتلون بعضهم في الشرق الأوسط ولنحم جبهتنا الداخلية»، والتيار الثاني كان واضحا في كلام الرئيس الفرنسي والذي قال إن «الرد الفرنسي سيكون قاسيا ولا هوادة فيه»، فهل «لا هوادة فيه» هذه، تعني عودة فرنسا إلى سوريا كمستعمرتها القديمة؟ هل تتدخل فرنسا في سوريا على الأرض أم أن الغرب بمجمله سيدفع بوضع كل من العراق وسوريا تحت الوصاية الدولية، بعد أن فشل أهل البلاد المحليون في إدارة شؤونها؟ أعتقد أن الغرب اليوم تجاوز التفاصيل الشرق أوسطية التي تتحدث عن شيعة وسنة، أو عن مصير بشار الأسد وتفاصيل الإرهابيين التي تطرب لها فضائيات التطرف عندنا. الرد لن ينتبه إلى هذه التفاصيل الصغيرة عندما يكون أمن باريس ولندن ونيويورك على المحك. هناك نموذج آخر للتدخل الفرنسي لم أتحدث عنه، وهو تدخلها في ليبيا الذي أدى إلى مقتل القذافي، وجرّ جثته في الشوارع، واستهداف أبنائه في عمليات مخابراتية وقوات خاصة على الأرض. هل تفعل فرنسا ذلك في سوريا أو في العراق أو الاثنين معا، وهل ستنفذ هذه العمليات تجاه قادة هذه الدول أم قادة «داعش»؟

الغرب مارد كبير نائم، متى ما تم إيقاظه سيتحرك بصورة لا يمكن تصورها، رغم أنه من المعروف مسبقا أن منطقتنا العربية، هي التي ستدفع الثمن الأكبر، نتيجة لوحشية «داعش» والمتطرفين بكل أشكالهم من دول وتنظيمات وإعلام يبرر هذه العمليات الوحشية.

تحدي الإرهاب معقد ويحتاج إلى مواجهات جادة وحاسمة. الإرهاب بعد ضرب باريس بسبعة انفجارات مختلفة راح ضحيتها أكثر من مائة فرنسي في شيء أقرب إلى (11 سبتمبر أوروبي) يرى الظاهرة في سياقاتها المختلفة العالمية والإقليمية والقطرية.

ولكن على الغرب أن يفهم تعقيدات المشهد الإرهابي قبل أي تحرك متسرع. بداية لا بد من فهم السياق العالمي الواسع للظاهرة فهو مفتاح المواجهة قبل أن نغرق في تفاصيل ظاهرة الإرهاب في الشرق الأوسط وحده. السياق العالمي للإرهاب ينحصر في الدوائر الأربع المتداخلة التي خلقتها حالة العولمة والتي تتمثل في: دائرة حركة البشر، حيث يتنقل الناس بحرية أكبر، ويحملون جنسيات دول لم يولدوا فيها أو جنسيتهم في مكان وولاءاتهم لبلدان أخرى أو قضايا أخرى، ويمكن للفرد منا أن يتخيل هذا في صيغته الأصغر الشرق أوسطية. أما الدائرة الثانية فهي حركة المال غير المسبوقة في العالم كله، ولو تخيلنا حزمة المليون دولار التي تصل إلى متر في الارتفاع، فنحن نرى تحرك جبال من الأموال كل يوم عبر الأطلسي وحده بين نيويورك والعواصم الأوروبية بعلو جبال الهيمالايا، وبالطبع هذه هي الحركة القانونية، ولكن هناك أيضا حركة أموال غير قانونية، لا تقل عنها في عالم غسل الأموال. الدائرة التي يتحرك فيها المال عالميا دائرة مخيفة بمفردها. أما الدائرة الثالثة فهي دائرة حركة الأفكار والآيديولوجيات وهي الدائرة التي تتحرك فيها أفكار المودودي من باكستان إلى أوروبا، أو كتاب سلمان رشدي من أوروبا إلى العالم الإسلامي في ساعات، وعلاقة هذه الدائرة بالدوائر الأخرى. الدائرة الرابعة والأخيرة هي دائرة الإعلام التي نعرفها جميعا الآن، والتي تلف العالم كله من ميديا التواصل الاجتماعي مثل «تويتر» و«فيسبوك» إلى الميديا التقليدية من الفضائيات التي تروج وتبرر لجرائم الإرهابيين. هذا هو السياق العالمي الذي تتحرك فيه ظاهرة الإرهاب بجماعاتها ومنظماتها.

أما على مستوى الشرق الأوسط، فنحن نتحدث عن سياق ضيق وأكثر تحديدا، رغم ارتباطه بالدوائر الأربع سالفة الذكر، والاستفادة منها إلى أقصى مدى ممكن. في منطقتنا العربية نحن نتحدث عن الإرهاب ليس في إطار الدوائر الأربع العالمية، بل يمكننا رسم صورة هندسية أخرى يمكن تسميتها بمثلث الإرهاب. أضلاع هذا المثلث تتكون من ضلع دول راعية وداعمة للحركات المتطرفة، وضلع المنظمات الإرهابية ذاتها، أما الضلع الثالث فهو ضلع الأفكار أو الآيديولوجيات التي تشرعن القتل خارج إطار القانون، وأيضًا تبرر للذبح بعد وقوعه.

فيما يخص الدول العربية قبل الغرب لن يستقيم حالنا، إلا إذا واجهنا في منطقتنا الأضلاع الثلاثة لمثلث الإرهاب: الدول الراعية، والمنظمات المنفذة على الأرض، والأفكار التي تبرر القتل، وتجعل أمرا في الأصل هو عمل وحشي بشع، يبدو مقبولا لدى إنسان سوي. إذا ما أخذنا هذا الكلام النظري وطبقناه على ظاهرة «داعش» في بلاد الشام والعراق، أو حركة الإخوان في مصر والشمال الأفريقي، نرى بوضوح لا يقبل الشك أن هذه الجماعات إما تستخدم، وإما تستفيد من التناقضات القائمة بين دول الإقليم ذاته. فنجد دولة ما تمول الإخوان نكاية في دولة أخرى، ودولة أخرى تمول الحوثيين في اليمن، لتحقيق مكاسب سياسية ضد دولة منافسة. أي أن فشل نظام الدول الإقليمي أساسي في استمرار هذه الحركات على قيد الحياة. الحركات لا تملك أموالا فقط، فهي تملك شبابا يتحركون عبر الحدود، في دائرة حركة البشر المعولمة أو الإقليمية تعمل كجماعات مرتزقة، جزء من عملها لدول بعينها، والجزء الثاني لها هي من خلال فائدة مادية مباشرة أو تعظيم نفوذها كما في حالة أبو بكر البغدادي وجماعته، أو حالة الإخوان التي نجحت في السيطرة على أكبر دولة في الإقليم لمدة عام كامل، بتمويل ورعاية دول بعينها.

إن لم تحدث مصارحة وحوار جاد حول دور الدول في رعاية الإرهاب لتحقيق مكاسب سياسية، فمن المؤكد أن الحرب على «داعش» بكل ما سينفق فيها من أموال لن تقضي على الظاهرة.

أما الضلع الثاني الذي يجب مواجهته في مثلث الإرهاب فهو ضلع المنظمات، وعلى هذا خلاف بين جميع الدول المشاركة في التحالف. فأميركا وتركيا مثلا تريدان القضاء على «داعش»، ولكنّ كليهما لا يريان تنظيم الإخوان تنظيما إرهابيا أو أنه المنظمة الأم، التي فرخت كل هذه الظاهرة من «القاعدة» إلى «داعش». دول التحالف تريد أن تواجه المنظمات الإرهابية بانتقائية، وهذا لن يحل المشكلة، إذ إنه يتعامل مع العرض ويترك المرض. الغرب أيضا ومنذ 11 سبتمبر يرى الإرهاب سنيا، ويغض النظر عن دعم إيران للإرهاب في نسخته الشيعية.

أما الضلع الثالث فمعظم الدول تشترك فيه بدرجات مختلفة، وهو ضلع آيديولوجيا الإرهاب التي تشرعن قتل غير المسلم وتبرره. وفي هذا لا بد أن نكون صرحاء بداية مما تبثه المساجد والمدارس من أفكار متطرفة، إلى تلك السموم التي تبثها إحدى القنوات الاخبارية العربية لمدة أربع وعشرين ساعة يوميا، سبعة أيام في الأسبوع، وثلاثين يوما في الشهر.

أعرف أن هناك موظفا في جهاز مخابرات ما، سيقول إننا في مرحلة تهيئة أجواء ستأخذنا إلى نقطة أفضل، ولا داعي أن نشير إلى بعضنا بالبنان فنعطل المسيرة. هذا النوع من التفكير يصب في الخانة ذاتها التي تبرر ولكن ربما من دون وعي أو قصد.

البعض منا أيضا يريد أن يحمل قطار الحرب على الإرهاب أجندته الخاصة التي قد تتناقض مع أجندة غيره، وهذه وصفة أخرى للفشل.

في مواجهة الإرهاب نحن نتحدث عن مواجهة الثغرات في الأربع دوائر العالمية: دائرة حركة البشر، ودائرة حركة المال، ودائرة الإعلام، ودائرة حركة الأفكار. أما إقليميا فإن مواجهة الإرهاب تعني تكسير أضلاع المثلث كلها: الدول الراعية للإرهاب، والحركات والمنظمات الإرهابية، وتفكيك منظومة الإرهاب الفكرية وأدواتها التي تشرعن وتبرر البربرية الحديثة.غير ذلك نعالج فقط عرضا لمرض، بينما يستفحل المرض في مستقبل الأجيال القادمة. الصراحة قبل المواجهة هي الحل. الصراحة بين الغرب والعالم العربي ضرورية. أحداث باريس تركز الضوء على انهيار الدولة في سوريا والعراق واليمن. أحداث باريس هي 11 سبتمبر أوروبية، وكما دفعنا الثمن لأكثر من عشر سنوات منذ أحداث سبتمبر، فعالمنا العربي سيعاني لعشر سنوات أخرى من التدخلات بعد حادثة باريس.

التعليقات