كتاب 11

11:41 صباحًا EET

ضبابية العقل

في العقل الضبابي كل شيء صح، وكل شيء غلط، وربنا، في ذات اللحظة. العقل الضبابي أو الضبابية مرض معروف يصيب كثيرًا من الأشخاص، يسبب النسيان والاكتئاب، ويأخذ صاحبه إلى ارتكاب جريمة أحيانًا في حق الغير، ولكن في معظم الأحيان في حق نفسه. تذكّرت ضبابية العقل كعرض لمرض عندما جلست في القاهرة لمدة يوم واحد أستمع إلى أحاديث الناس عن بلدهم. لم يصبح عنوانها الانتخابات البرلمانية في جولتها الثانية في مدن الشمال بعد أن انتهت في الجنوب أو في الصعيد، أو حتى زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى لندن، بل كان السياق الحاكم هو سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء، والتي راح ضحيتها أكثر من مائتي سائح روسي عائدين من قضاء إجازتهم في شرم الشيخ.

العقل الضبابي يناقش أحيانًا أن الطائرة أسقطت بصاروخ في تدريبات عسكرية، بغض النظر عن مدى الصاروخ وقدرته على اصطياد جسم متحرك ودقة التصويب، أو أنها أسقطت بفعل قنبلة وضعها الإرهابيون بتواطؤ مع عمال المطار، أو أن القنبلة وضعت في روسيا وجاءت بها الطائرة من هناك، كلام كثير وعكسه في ذات الوقت، وتلك سمة من سمات ضبابية العقل، حيث وقبل أن ينتهي المتحدث من سيناريو والانتقال إلى آخر يذكرك بأن مصر مستهدفة، وعليها تجرى مؤامرة كبرى لإسقاط الدولة المصرية. كلام كبير مخلوط في كلام صغير، وتسمعه في معظم الفنادق والمقاهي والبيوت. كلام تنطبق عليه كل صفات العقل الضبابي، حيث تنسى الحديث بمجرد الانتقال إلى موضوع آخر.

كنت أعرف أن الأفراد يصابون بمرض عدم الوضوح وضبابية العقل، ولكن لم أكن أعرف أن ضبابية العقل يمكن أن تنتشر لتصبح مرضًا وطنيًا. حادثة الطائرة الروسية والحديث عنها في مصر يوحيان بحالة عالية من ضبابية العقل. وضبابية العقل هي في كثير من الأحيان هي أحد محركات الوطنية المنغلقة التي ترى أنني «أحسن من غيري في كل بلدان العالم وأفهم أكثر منهم». ضبابية العقل مرض رغم أن كثيرين يستمرون بذات الأعراض ويرون أنها أمر طبيعي. المشكلة في الحالة المصرية هي أن الإعلام لا يضيف معلومة، بل يدفع بمئات الآراء التي لا تستند إلى علم فتزيد من حالة الضبابية الوطنية أو الضبابية العامة.

نقد الإعلام قد يعرض البعض منا إلى أن يكون مادة إعلامية فنتحرج كثيرًا، ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الإعلام المصري اليوم تنقصه المسطرة أو المعايير الحاكمة لما يمكن تسميته معلومة قابلة للتداول لقربها من الصدق بدرجة معقولة ولا أقول صادقة تمامًا. كما أنه ينقصه أي نوع من المعايير الأخلاقية، وتلك قصة أخرى، فطبيعي في مصر اليوم أن تنتهك خصوصية الأفراد بعرض صورهم الخاصة على الشاشات أو ينشر تسجيل لمكالمات تليفونية خاصة إلى آخر قائمة ما شاهده المصريون والعرب من سقطات أخلاقية تزايدت بصورة مطردة في كثير من القنوات التلفزيونية المصرية.

طبعًا، العقل الضبابي الذي يتحرك في مساحات شاسعة من الضباب لا يرفض فقط المعايير، بل هو في الأصل لا يراها ولا يعترف بوجودها. في المجتمعات الأخرى التي تشبه الحالة المصرية حتى لو كان الإعلام تعبويًا مثل حالة كوبا وكوريا الشمالية، وغيرهما من بقايا الإعلام التعبوي، هؤلاء يعترفون بالقصور المهني، ولكن المهمة السياسية الموكلة إليهم من الدولة تمنعهم من الالتزام بهذه المعايير. الاعتراف بالتقصير شيء، وعدم رؤية المعايير وعدم الاعتراف بها شيء آخر. الأولى تعطي أملاً في إمكانية الإصلاح، والثانية تغلق باب الأمل في أي إصلاح.

لماذا ضربت بتعامل المصريين مع كارثة الطائرة الروسية كمثال على ضبابية العقل الذي يضر بنفسه وبمصالحه وبالآخرين؟
مثلاً، كان من الممكن مواجهة تسريبات أجهزة الاستخبارات الغربية التي ادّعت تفجير الطائرة فوق شرم الشيخ بشيء من المهنية والاحتراف التي تضفي المصداقية كأن تقول مثلاً: «نحن مثلكم ننتظر الدليل، ومثلكم نريد أن نعرف الحقيقة أيًا كانت». لو كانت التصريحات الأولية بهذا الشكل لما دخل المصريون في نفق الدفاع أو المواجهة التي تصب ليس في تشويه صورة مصر، بل في تعطيل مصالح مصر، وأولها تلك القرارات من بعض الدول بوقف الطيران إلى شرم الشيخ.

وحتى الدول التي وصلت إلى هذه القناعة للمحافظة على أمن وسلامة مواطنيها يجب التواصل معها وإعادة ثقتها في مطارات مصر. طبعًا، لكل مَن دَرَس أوليات الأمن يدرك أن مطار شرم الشيخ اليوم هو أكثر مطارات العالم أمنًا، ربما هذا الأسبوع تحديدًا، حيث إن عيون الداخل والخارج تراقب ما يحدث في هذا المطار، ويمكن شرح هذه النقطة، ويمكن أيضًا فهمها من قبل العالم الخارجي، ولكن بدلاً من ذلك ركب الإعلام المصري أو كثير من منصاته الإعلامية – بلغة من يدعون فهم الإعلام الجديد – ركب الإعلام سوفت وير إعلام مبارك بأن مصر ضحية مؤامرة عالمية من أجل تركيعها، إلى آخر تلك المقولات المعلبة التي فقدت صلاحيتها داخليًا وخارجيًا وأصبحت كالأطعمة الفاسدة. هذا النوع من الإعلام الذي على شاكلة كثير من التلفزيونات الخاصة في مصر هو المؤامرة الحقيقية على مصر. وهنا لا أقول هذا اتهامًا، بل أقوله من باب أن نتائج هذا العقل الضبابي على المدى البعيد كارثة على مصر لا مؤامرات الخارج.
ولكن ما هي أسباب ضبابية العقل في الأفراد والدول؟ أول أسباب ضبابية العقل هو الجسد المنهك أو الإجهاد الشديد، وعدم انتظام الدورة الدموية عند الأفراد ومشكلة في الرأس.

ومصر تعاني بعد كل هذه الثورات من حالة الإجهاد أو التعب الثوري، كما أن شرايين مصر رغم كل ما بذل منذ ثورة 25 يناير (كانون الثاني) حتى الآن ما زالت ضيقة ولا تسمح إلا بمرور الدم القديم.

حادثة الطائرة مثلها مثل كثير من حوادث الطيران في العالم، ولكن الفارق هو التعاطي مع المعلومات ونشرها بشفافية، هو الفرق بين العقل الذي يتمتع بالوضوح والعقل الضبابي، ومصر هذه الأيام تعاني من ضبابية العقل.

التعليقات