مصر الكبرى

12:18 مساءً EET

بالمنطق كلبي قُطة

    القط عنده أربعة أقدام
    وكلبي عنده أربعة أقدام
    إذاَ بالمنطق كلبي هو قط.

بهذا القياس المنطقي يتهكم يونسكو في مسرحيته الشهيرة "الخرتيت" من لا منطقية ومغالطات وعبث نهج من يتشدقون باسم المنطق ليتلاعبوا بعقول المتلقين ويمرروا رسالاتهم المسمومة.

في هذا الفصل من المسرحية يوجه يونسكو نقداً حاداً لهذه النوع من المغالطات التي تقوم بتمرير أحكاماً خاطئة بين جموع الجماهير مما يؤدي إلى انتاج منظومة قيمية خاطئة يقوم البسطاء بنشرها في كل مكان عبر قياسات منطقية خاطئة. والقياس هو نوع من الاستدلال الاستنباطي الغير مباشر وضعه أرسطو ويعتبره من أعلى درجات التفكير؛ ويستمد المنطق الرياضي المعاصر جذوره من القياس المنطقي.
طب القياس المنطقي عباره عن إيه بالضبط؟؟
القياس المنطقي له ثلاثة عناصر: مقدمة كبرى ومقدمة صغرى وخلاصة (أو نتيجة نستنتجها من المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى).
القياس المنطقي ببساطة بيقول إن الكون ده عبارة عن فئات (أو مجموعات) وكل فئة لها خصائص (أو صفات). ونحن نقوم بتصنيف الأشياء والكائنات التي حولنا وفقاً لخصائصها ومواصفاتها. على سبيل المثال، من خواص فئة الكلاب أنها تسير على أربع وتنبح ولها ذيل،… إلى غير ذلك من المواصفات. وعندما أرى كائن في الشارع عنده نفس هذه الخصائص (يعني يمشي على أربع وينبح وله ذيل، الخ). أقول: إذاُ هذا كلب. عقلنا دائما يقوم بهذه العملية بصورة تلقائية، لكن يجب أن نكون مدركين كيف تتم هذه العملية.
بصورة مبسطة:
المقدمة الكبرى المفروض تحدد خصائص أو صفة ما لدى فئة ما. يعنى بتقول إن الفئة الفلانية ("س" على سبيل المثال) عندها الصفان دي. بصورة رياضي، س: (صفة1، صفة2، صفة3،…)
المقدمة الصغرى المفروض تحدد إن شئ محدد أو كائن محدد ("ص" على سبيل المثال) ينتمي إلى الفئة الفلانية. بشكل رياضي، صس.
الخلاصة أو الاستنتاج هو إنه بما أن هذا الكائن ينتمي إلى تلك الفئة فهو إذاً لديه هذه الخصائص، يعني ص لديه صفات الفئة س: (صفة1، صفة2، صفة3،…).
طيب، فين المغالطة في قياس يونسكو؟
    المقدمة الكبرى هي "القط عنده أربعة أقدام"، ومعناها إن فئة القطط من صفاتها إنه لديها أربعة أقدام.
    المقدمة الصغرى هي "كلبي عنده أربعة أقدام"، هنا الغلط، لإن المقدمة الصغرى دورها هو إنها تحدد انتماء كائن ما لفئة القطط، لا أن تحدد صفة كائن ما (في هذه الحالة كلبي اللي عنده أربعة أقدام). يعني لو افترضنا إنني لدي قطة اسمها "ميرو"، فالمقدمة الصغرى المفروض تكون: :"ميرو هي قطة"
    الخلاصة (إذاَ بالمنطق كلبي هو قط) طبعاً خطأ بما إن المقدمة الصغرى خطأ. الخلاصة الصحيحة وفقاً للمثل الذي قدمته المفروض تكون: "اذاً ميرو عندها أربعة أقدام".
لازم ناخد بالنا من أمرين.
أولاً، الصفات مش حصرية، بمعني ممكن أكثر من فئة يكون لها نفس الصفة. مثلا، فئة الكلاب لديها أربعة أقدام، لكن أيضاً القطط ومعظم الحيوانات تسير على أربع. ولازم آخد بالي إن المقدمة الصغرى هي بتحدد انتماء شئ أو كائن لفئة فقط. يعني لا ينفع أقول كمقدمة صغرى: بما إن الكائن أو الشئ الفلاني لديه الصفة الفلانية فهو ينتمي لتلك الفئة، علشان ممكن الصفة دي تكون مشتركة بين أكثر من فئة، يعني لا ينفع إني أقول "كل من يسير على أربع هو قط".
ثانياً، الصفات لا تجزأ، ففي المثال الذي سقته لو قلت في المقدمة الصغرى إن "ميرو هي قطة" فمعنى ذلك أن ميرو لديها كل مواصفات القطط، يعني لا ينفع أن أقول: مش معنى إن ميرو قطة إنها لازم تمؤ ولازم يكون لديها ذيل، هذا ليس ضرورياً هي بس عندها "بعض مواصفات القطط". هذا خطأ لأني عندما أقول أن كائن أو شئ ما ينتمي إلى فئة، فذلك يعني أنه بالتبعية أنه يتمتع بكافة مواصفات هذه الفئة. وبالتالي، علشان يكون التمييز بين الفئات سليم، نحتاج عند تعريفنا لها إننا نعرض بصورة تفصيلية كافة مواصفاتها.
وإليكم مغالطة كثيراً ما نقابلها:
    المقدمة الكبرى:  اللي بيتقي الله لازم يكون بيصلي
    المقدمة الصغرى: فلان بيصلي
    الخلاصة: إذاً فلان يتقي الله
دي مغالطة، لإن المقدمة الكبرى تقول إن فئة "اللي بيتقي الله" من موصفاتها "الالتزام بالصلاة". المقدمة الصغرى المفروض تكون: فلان ينتمي إلى فئة "اللي بيتقي الله"، وليس إن "فلان بيصلي" (لإن الصلاة هنا هي الصفة مش الفئة). والخلاصة تكون: "إذاُ فلان يصلي"، وليس إن "فلان يتقي الله". وعلشان نقدر نحدد بصورة دقيقة الناس المنتمين لفئة "اللي بيتقي الله" نحتاج إننا نحدد بصورة تفصيلية كافة مواصفات هذه الفئة، ونشوف فلان ينتمي إلى هذه الفئة بنسبة كام في المائة؟
المشكلة هي إننا عندما نكون مقتنعين بصحة المقدمة الكبرى نعتقد أيضاً أن العكس أكيد صحيح. بمعني إننا عندما نكون مقتنعين إن اللي بيتقى الله لازم يكون بيصلي، نميل لتصديق إن كل من يصلي لابد أن يكون متقياً لله، ده وارد طبعاً ولكنه ليس بالضرورة دائماً صحيحاً.
مثال آخر لنفس النوع من المغلطات:
    المقدمة الكبرى: الحقوقيون يدافعون عن حقوق المرأة
    المقدمة الصغرى: فلان يدافع عن حقوق المرأة
    الخلاصة: إذاً فلان حقوقي
نمط آخر من المغالطات التي تتسلل في حياتنا بيسر وخبث قابلته أثناء إقامتي في فرنسا ويكمن في كلمة "بعض":
    المقدمة الكبرى: بعض العرب يسكنون ضواحي باريس
    المقدمة الصغرى: بعض سكان ضواحي باريس لصوص
    الخلاصة: إذاً بعض العرب لصوص
هذه مغالطة، لإنه ببساطة كون بعض العرب يسكنون ضواحي باريس لا يعني بالضرورة أن أياً منهم ينتمي لفئة اللصوص التي يوجد بعضها أيضاً في الضواحي، إلا إذا قلت أن كل من يسكن في الضواحي هو لص! هنا أيضاً نظرية المجموعات الرياضية (Axiomatic set theory) يمكنها أن تساعدنا أن نفهم بصورة أكثر وضوحاً.
هذا المنطق الاستنتاجي الملئ بالمغالطات كثيراُ ما نقابله في عالم السياسة. إليكم هذا المثال الأمريكي الشهير:
"إذا حصلت مجموعة عرقية في اختبار الذكاء على نتائج أضعف من نتائج مجموعة عرقية أخرى، فإن المجموعة الأولى يمكن اعتبارها أقل ذكاءاً من المجموعة الثانية. وبما أن متوسط نتائج الأمريكان السود في اختبار الذكاء أقل من متوسط نتائج الأمريكان البيض، إذاً الأمريكان السود أقل ذكاءاً من الأمريكان البيض."
المشكلة هنا تكمن أننا كثيراً ما نخلط بين الحقائق والفرضيات التي تبدو لنا وكأنها حقيقة من فرط شيوعها. في هذا الحالة فإن الفرضية التي تمثل المقدمة الكبرى تؤدي إلى نتيجة خاطئة وإن كانت تبدو منطقية (لأنها بالفعل منطقية!). ولكن…
المثال يفترض أنه يمكن الاعتماد على نتائج اختبار الذكاء وحدها لتحديد المستوى الفكري لمجموعة عرقية كاملة. هذه الفرضية لم تأخذ في الاعتبار وجود اختلافات ثقافية يمكن أن تؤثر على نتيجة اختبار الذكاء أو طبيعة نمط الذكاء الذي يقوم الاختبار بقياسه، أو وجود أنماط أخرى من الذكاء، إلى غير ذلك من الأمور.
إن هذا النوع من المنطق المتحيز ينطلق من أمور عامة نعتبرها، من كثرة شيوعها، حقيقة، فيقوم شخص باستغلالها لتبرير سلوكيات وقرارات حمقاء. إن هذا يحدث دائماً في عالم السياسة ومع الاسف، هذا هو واقعنا اليومي.
قد يرى البعض في هذا العرض تبسيطاً مخلاً، لكني أرغب من خلاله توصيل رسالة. يارب تكون وصلت. غير أن السؤال الذي يلح علي وأرغب في طرحه على نخبتنا السياسية وقادة الفكر من إعلامينا يظل قائماً: تعرف إيه عن المنطق؟؟
لو ماتعرفش حاجة عن المنطق بتكلم في أمور العامة ليه؟
ولو عارف وفاهم، بتستهبلنا ليه؟ Why? Why do you do that?

التعليقات