مصر الكبرى

03:00 مساءً EET

هل نحن شعب غير مسؤول ؟

فاتني القطار تلك العبارة المستخدمة في العنوان‏,‏ هي مرض اجتماعي ولغوي يبرر الهروب من المسئولية وتبعات الأفعال التي نكون نحن ولا أحد غيرنا مسئرلين عنها‏,‏ فعندما تقول فاتني القطار فكأنك تلقي مسئولية عدم وصولك إلي غايتك علي القطار‏,‏ ورغم أن جميعنا يعرف أن القطارات تسير حسب مواعيد محددة‏,‏ إلا أننا نقبل من صاحبنا هذا العذر‏,‏ فليس هو الذي تأخر عن موعد القطار‏,‏ لا‏!..‏ القطار هو المسئول لأنه لم ينتظر صاحبنا‏,‏ ليس هذا فقط‏,‏ ولكن في بعض الأحايين يتبرع من الاعتذاريين بعذر آخر يدفع بالمسئولية إلي درجة أبعد‏,‏ وقد حضرت حوارا لرجلين أحدهما يبدي اعتذارا لثالث قائلا ان القطار فاته‏,‏ ولما ناقشه صاحبه في الأمر تبرع من مع محدثه بالاعتذار التالي هو في الحقيقة لم يفته القطار لأنه كسول‏,‏ بل أخذته نومه وها هو يسير علي نفس نهج صاحبه‏,‏ أي أن صاحبنا لم ينم ولكن النوم نفسه هو الذي أخذه من عالم اليقظة والصحو‏,‏ وفي كلتا العبارتين‏,‏ سواء في عبارة من فاته القطار أو من أخذته نومة‏.‏ نجد أن المسئولية تلقي علي مجهول أو جماد أو حالة ويخرج الانسان من إطار المسئولية‏,‏ وبما أنني لست أستاذا في علم اللغويات الاجتماعي‏SocioLinguistics‏ فليس لدي إجابة شافية لسيطرة صيغة المبني للمجهول في سياق الحديث اليومي عند بعض العرب‏,‏ ولا أظن أن فاتني القطار أو أخذتني نومه تقع في هذا السياق‏,‏ فالحقيقة الفاعل في العبارتين هو القطار الذي فات والنوم الذي أخذ صاحبنا‏,‏ ماحدث هو تبديل للمواقع بين الفاعل والمفعول به‏,‏ والذي فضل فيه الفاعل أن يكون مفعولا به‏,‏ أي أن القطار فاتني والنوم أخذني‏.‏

وماتلكما بالعبارتين الوحيدتين في الحديث العربي اليومي‏,‏ آسف خانني التعبير أقصد في اللغة المحكية اليومية‏,‏ وها أنا كما تري أسقط في الفخ ذاته‏,‏ فلم أقل أنني الذي فشل في التعبير عن جملته‏,‏ أنا متماسك لغويا‏,‏ التعبير هو الذي خانني‏,‏ ولا أدري إن كان هنا صفات أخري للتعبير مثل البشر كالخيانة والصدق‏.‏ حقيقة الأمر هي أنني لم أستطع أن أعبر عن فكرتي‏,‏ إذن لماذا لا أقول هذا صراحة‏,‏ بدلا من تحميل اللغة والتعبير مسألة جهلي ومحدودية قدراتي‏,‏ لماذا لانكون في ممارساتنا اللغوية اليومية أكثر مسئولية لنقول إنني تأخرت عن موعد القطار أو إنني استغرقت في النوم أوإنني لم أستطع التعبير عن فكرتي‏..‏ لماذ هذا الاستبدال‏,‏ وتري ماهي أسباب ذلك في حياتنا كي نتبني هذه اللغة الهروبية التي تلقي المسئولية علي عاتق الآخرين وتعفينا تماما من المجابهة أعتقد أن هناك مساحة كبيرة لتحليل اجتماعي للغتنا المعيشة‏.‏وماتلك بعبارات اصطدتها للتشهير بلغتنا اليومية فلدي مئات الأمثلة التي لوكتبتها هنا لصار المقال كله عبارة عن قائمة من هذه التعبيرات التي تقذف بالمسئولية بعيدا عن أصحابها أو تضع المسئولية علي أي شئ وكل شئ ماعدا هؤلاء المسئولين عنها‏.‏
كل ماأتمناه هو أن يلاحظ بعضنا البعض كنوع من التمارين الكلامية‏,‏ ولسوف يجد الكثير منكم آلاف الأمثلة علي ماأقول من التعبيرات من حرقته السيجارة و لسعته النار و قتله العطش‏,‏ وأدارت له الدنيا ظهرها‏,‏ أو أدار الحظ له ظهره‏,‏ وغير ذلك‏.‏عدم تحمل المسئولية هي بنية لغوية لدينا‏,‏ وأرجو ألا يتطوع البعض بشكل هروبي أيضا ليقول ان هذه المشكلة موجودة في كل اللغات‏,‏ هذا غير صحيح وإن وجدت في بعض اللغات‏,‏ مثل الإنجليزية فهي محدودة وتقع في صيغ البناء للمجهول وليس استبدال الفاعل بالمفعول‏,‏ هي ربما تغييب الفاعل‏,‏ ولكن يبقي الناس فاعلين‏,‏ أما صيغة القبول بموقع المفعول به علي مستوي الحديث اليومي فلاتوجد إلا في العامية العربية‏.‏ ويقولون ان العالم مصنوع من طريقتنا في الحديث عنه‏,‏ بمعني أن العالم يتجلي لنا حسب طريقة وصفنا لهذا العالم‏,‏ فإذا تحدثنا عنه علي أنه مجموعة من العوائق والتعقيدات فقد يبدو لنا كذلك‏,‏ وإذا تحدثنا عنه علي أنه عالم فرص وليس عالم مشاكل فإن فرصتنا في النجاح قد تتعاظم‏.‏
حديثنا عن العالم بهذه الطريقة الأحادية هو جزء من المشكلة‏,‏ فإذا ماتخلينا ليس عن المشكلة بشكل فعل ولكن أيضا استبطنا حديث اللامسئولية هذا لكي يصبح جزءا من لغتنا اليومية فإن الورطة تزداد تعقيدا ويصبح الخروج منها أكثر صعوبة‏.‏إعلان المسئولية وتقبلها هو بداية الشعور بالذنب وأيضا بداية قبول الفشل من أجل بدء جديد‏.‏
أما إذا لم يتقبل البعض منا بأنه فشل في الضلوع بمسئولياته‏,‏ فإنه سيستمر في حالة الإنكار ولن تتاح له فرصة البدء من جديد‏,‏ إذ يكون استمرار الخطأ وكذلك تزايد التكلفة التي ندفعها نتيجة هذا العناد هو الثمن الاجتماعي والسياسي الذي ندفعه‏.‏ أول خطوة في الإصلاح هي الاعتراف بالخطأ وكذلك تحديد المسئول عن الخطأ‏,‏ أي أنني أنا الذي لم أستطع التعبير‏,‏ وأنا الذي تأخر عن القطار‏,‏ وأنا الذي استغرق في النوم لأسباب كثيرة منها عدم التنظيم في المواعيد أو أسباب سابقة لذلك‏.‏وماتلك الصيغة الوحيدة في خطابنا اليومي التي أدعو الي مناقشتها ولكنني أدعو إلي مناقشة ثقافة المظهرية‏,‏ أو الفعل من أجل الآخر وليس من أجل النفس‏,‏ فبين التخلي عن الفعل في لغة فاتني القطار لدينا الفعل من أجل الآخر عندما يقول رجل لصاحبه أو سيدة لصاحبتها اشتريت لك سيارة أو أكلت لك‏,‏ أي أن الذي اشتري السيارة لم يشترها لإرضاء نفسه وإرضاء حاجته ولكنه اشتراها من أجل الآخرين أو حتي تكتمل صورته لدي الآخرين‏,‏ واستبطن ذلك لغويا فأصبحت كاف الخطاب جزءا لايتجزأ من لغته اليومية‏,‏ أي أنه يفعل ذلك من أجل مظهر اجتماعي وليس لإرضاء رغبة داخلية فيه‏.‏ وإذا ماقارنا مجتمعاتنا بالمجتمعات الأخري نجد أن الأفراد‏,‏ علي الأقل في كثير من الدول الصناعية‏,‏ وفي أمريكا تحديدا‏,‏ يفعلون الأشياء لإرضاء رغبة داخلهم وليس لإرضاء المجتمع‏.‏
وبين خطاب كاف المظهرية ولا مسئولية فاتني القطار تكمن كثير من العلل الاجتماعية الكبري‏,‏ ولكن بعضنا يفضل أن يناقش القضايا من أعلي‏,‏ إذ يود أن يعرف ويفسر مايحدث الآن في إطار السياسة والاقتصاد والإمبريالية‏,‏ والعبارات الكبيرة‏,‏ إن جذور مايحدث هو في الأشياء الصغيرة التي تملأ الفضاءات الاجتماعية المختلفة وبشكل مكثف وبطريقة لا إرادية وربما تعودناها لدرجة أنها طبيعة أخري لنا ومنا ولذلك لانراها جديرة بالنقاش‏.‏ ربما مايجعلني ألاحظ هذه الأمور البسيطة هي مسافة البعد التي تشكل هذا المنظور‏,‏ ولكن في النهاية تبقي كل أوليات الحياة في الأمور البسيطة والدقيقة‏,‏ فالمجتمعات كالجسم الحي‏,‏ إن لم تكن خلاياها الأولية وأنسجتها قادرة علي المقاومة‏,‏ فليس لدي شك من فقدان المناعة المكتسبة لدي بقية الجسم‏,‏ ولذا أقترح أن نفتح حوارا حول المسئولية والخطاب أو اللغة اليومية‏,‏لأنه إن لم نبدأ بإصلاح اللبنات الأولي‏,‏ تبقي هواجس الانهيار في مجمل البناء واردة‏.‏ وبذلك لايفوتنا القطار ولكن نكون نحن الذين تأخرنا عنه‏.‏

التعليقات