كتاب 11

08:14 صباحًا EET

أسئلة البراءة

براءة مبارك ورجال نظامه – سواء كنت مع أو ضد- يمكنها أن تدخل مصر فى النفق مرة اخرى إن لم نتجرد فى التعامل مع المشهد واضعين استقرار مصر.

ومستقبلها نصب أعيننا ومصممين على ألا يعود ذاك النظام مرة أخرى بعد ثورتين (never again). وهذا يتطلب منا مزاجا فكريا فى طرح أسئلة ما جرى بهدوء ليس من اجل فهمه فقط بل من اجل طرح فهم يسهم فى تثبيت السلم الاهلى لا الاضطراب والبلبلة فى بلد فى حالة سيولة. لا ادعى ان إسهامى هنا سيكون الأفضل ولكننى سأطرح بعض الأسئلة التى تأخذنا فى طريق السلم الاهلى لا فى طريق الفتنة.

مصر اليوم تتأرجح بين موقفين متطرفين يحكمان المشهد وكلاهما يحتاج الى مناقشة جادة بهدف الترشيد: الموقف الاول ثورى وانتقامى يطالب بتطبيق أقصى العقوبة حتى إعدام الدكتاتور والموقف الثانى احتفالى يبرئ مبارك ورجاله من اى جريمة فى حق الوطن، وسأحاول هنا أن أناقش هذين الموقفين بعقلانية وتجرد لتوضيح ان كلا الموقفين لا يصب فى مصلحة مصر المستقبل التى نريدها للأجيال القادمة وليبتلع كل منا كرامته للحظة ويتبع منطق المقال الى اخره ثم يرد عليه فى النهاية.

بداية للقائلين بإعدام الدكتاتور أقول إن هذا لا يخرجنا مما نحن فيه، فقد اعدم العراقيون الدكتاتور وانقسموا بعد إعدامه ومرت عشر سنوات على الإعدام وكما ترى إعدام الدكتاتور لم يوصل العراق الى استقرار رغم ان ثروات العراق اكثر من ثرواتنا ولكنه الان بلد لا يمكن أن يتعافى ولو بعد عشر سنوات أخري، فهل هذا ما تريده جماعة المطالبة بإعدام الدكتاتور أن تبقى مصر عشرين عاما فى حال يشبه حال العراق؟

فى ليبيا لم يعدم الدكتاتور بمحاكمة كما فى العراق بل تم سحل القذافى فى الشوارع ورميه بالرصاص والتمثيل بجثته. والسؤال هنا، هل نزعة الانتقام المتطرفة هذه ساعدت ليبيا على الوصول الى السلم الاهلى والاستقرار، لقد قتل الليبيون القذافى وابنه وقطعوا أصابع سيف الاسلام التى هدد بها، فهل هذا الانتقام شفى غليل الليبيين مما فعله بهم القذافى ونظامه أم أخذهم فى مدق الدماء لنرى بلدا الآن لا يمكن السيطرة على ما تولد فيه من عنف ورغبة جارفة فى اتجاه الدم؟ ليبيا اليوم تحتاج الى عشرات السنين كى تصل الى الاستقرار، فهل خذا ما تريده جماعة سحل الدكتاتور وعائلته ومن معه لمصر فى السنوات المقبلة. بالطبع لدينا ممن تتملكهم نزعة التفوق الوطنى أو الشيفونية ممن سيقولون مصر ليست العراق وشعبنا ليس كالشعب الليبى الى آخر العبارات التى لا تصمد امام التحليل، نحن بشر لا نختلف كثيرا عن ليبيا او العراق او رومانيا بعد تعليق تشاوسسكوا وزوجته. الفارق تفى الحالات الثلاث هى ماذا فعل الشعب بعد الانتقام هل بنى عملية سياسية أخذت البلد فى طريق النجاة كما فى الحالة الرومانية أم اخذها نحو هاوية الفوضى الوطنية فى حالتى ليبيا والعراق. الانتقام ليس حلا بل الحل فى تثبيت إجراءات وطنية تمنع الدكتاتورية التى اخرجها الشعب بالأقدام من الباب الا تدخل مرة اخرى من الشباك وهذا هو تحدى مصر الجديدة، وتحدى الرئيس عبدالفتاح السيسى من خلال عملية عدالة انتقالية منظمة تليق بمصر ومن خلال التأكيد لنفسه وللشعب ان نظام مبارك لن يعود وهنا لا اعنى بالنظام الأشخاص بل الأفكار والقيم التى أوصلتنا لما نحن فيه، واترك للقارئ تسمية ما نحن فيه، إن كان يراه انحطاطا ام نهضة ورفاهية بعد 30 عاما من نظام مبارك؟

أما فيما يخص الجماعات التى تسيطر عليها النزعة الاحتفالية بالبراءة فهنا اذكرهم بأن هذا لا يصب فى مصلحة استقرار مصر، فالبراءة كانت على ادعاء محدد فيما يخص بيع الغاز لإسرائيل أما قضية قتل المتظاهرين فرفضت ولم تنظر. والحكم فى هذا النوع من القضايا التى يلتف حولها الناس غالبا ما يكون فى ساحة الوعى العام والرأى العام، فلو نظرنا الى حالة محاكمة لاعب الكرة الأمريكى أوجيه سيمبسون الذى قتل زوجته نيكول سيمبسون وخادمه فى لوس انجلوس، تلك المحاكمة الشهيرة التى استمرت لمدة تسعة أشهر بمتابعة تليفزيونية على مدى الساعة وفى النهاية حكمت المحكمة ببراءة أوجيه سيمبسون ورغم براءة المحكمة فإنه لا يوجد احد فى امريكا باستثناء قلة فى مجتمعات السود يرى سيمبسون على انه بريء أو يعامله على انه بريء الخطأ فى قصة سيمبسون هو تطرف من كانوا يناصرونه بالغوا فى احتفالهم ببراءة يعرف الناس انها براءة اخطاء فى ادلة الادعاء ( او ما يساوى النيابة عندنا) لا اخطاء فى القاضى أو فى الحكم. البرئ فى المحكمة استمر حتى اليوم مجرما ومذنبا امام الرأى العام.

التحدى الذى أمامنا فى قضية مبارك هو اننا قد شاهدنا الادعاء يفشل فى تقديم ادلة عن الفساد وعن القتل معظم المصريين شاهد عليها فمعظمنا عشنا نظام مبارك ونعرف خيره وشره، فالدفع بأنه نظام بريء سيأخذ مبارك فى طريق سيمبسون.

الافضل لنا جميعا بأن نقبل حكم القضاء وندعم مؤسسة القضاء فى مصر الجديدة وندعم اعادة تدريب النيابات لكى تصل الى كفاءة تليق بالعدالة فى مصر الجديدة، دعم القضاء وليس هدمه هو المطلوب منا الآن.

احيانا بعض القوانين تكون غير عادلة مثل قانون الضرائب فى امريكا مثلا الذى ينحاز للأغنياء والشركات الكبري، ولكن النظام فى مجمله يوحى لمن يعيشون فى ظله بأنه نظام عادل. علينا الا نتمسك بصغائر الأمور ونرى المشهد الكلى ونقلل من روح الانتقام كما نقلل من الاحتفال بأمر يعرف معظمنا انه لا يستحق الاحتفال.

أسئلة البراءة كثيرة ولكن بجب ان نتناولها ونضع نصب أعيننا اننا نبنى امصر جديدة« على العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الانسانية، ولأسئلة البراءة بقية.

التعليقات