كتاب 11
داعش وتجليات الأزمة الحضرية
السهل فى تفسير ظاهرة داعش والتطرف المتسربل بالدين هو ان داعش وأمثالها نتيجة لفكر البداوة وربما زحفها على الحواضر العربية من تونس الى القاهرة الى بغداد ودمشق.
ولكن ما أود طرحه فى هذا المقال هو عكس ذلك تماما، اذ أرى ان داعش وجماعات العنف التى تلف نفسها فى عباءة الدين هى نتيجة لأزمة الحواضر العربية لا أزمة فى عالم البداوة. وفى فلسفة الاستسهال التى تلقى باللائمة على انتشار فكر البداوة إعفاء لحكومات من دفع فاتورة سياسات حضرية فاشلة ومنظومة قانونية تفشل فى حماية الفضاء الحضرى. داعش أزمة حضر لا أزمة بداوة.
بداية العنف السياسى أو العنف فى المناطق الحضرية الفاشلة ليس حكرا على العالم العربى فبنظرة مقارنة نكتشف ببساطة ان ظاهرة العنف فى مدن أمريكا الشمالية سواء عند السود فى أطراف مدينة لوس انجلوس أو فى ديترويت أو فى أمريكا الوسطى فى ماناجوا عاصمة نيكاراجوا او أمريكا الجنوبية حيث كانت سياسات قتل اطفال الشوارع (shoot to kill) أو فى المدن الافريقية فى نيجيريا كلها ظواهر تعكس حالة انهيار وتفسخ المراكز الحضرية.
هناك دراسات عديدة مقارنة عن فشل المراكز الحضرية وارتباطها بظاهرة العنف وظهور المافيا او عصابات الشباب فى معظم المدن الفاشلة من لجوس حتى ديترويت مرورا بمناجوا وحتى ما رأيناه حديثاً على الشاشات فى مدينة فيرجسون فى ولاية ميزورى وقبلها فى 2010 فى واشنطن العاصمة .
طبعا ليس فى هذه المدن ظاهرة جز الأعناق وقطع الرءوس وكثير من الممارسات البربرية لجماعة داعش ولكن الخريطة الجينية للعنف فى المناطق الحضرية واحدة بتنوعاتها المرتبطة بالثقافة والعرق الى آخر العوامل الأخرى. النقطة فى هذا المقال هى انه لا يكفى لتفسير ظاهرة داعش والتطرف الدينى تلك الكليشيهات التى نرددها مثل ان فكر محمد عبد الوهاب هو الذى أوصلنا الى هنا، فهذا الأمر ان لم يكن فاشلا تماماً فى تفسير الظاهرة فهو فى احسن الأحوال محل أخذ ورد.
لو كان بالفعل فكر محمد عبدالوهاب الذى لا أرى له ملامح واضحة تضعه ضمن ما يمكن تصنيفه ضمن كتب الأفكار الكبرى غير الحديث عن كتاب التوحيد وهو كتاب لو درس فى الازهر لصنف ضمن عشرات بل المئات من الكتب التى تدرس فى فصل العقيدة فى كلية أصول الدين. هذه الأسطورة لابد من تفكيكها لان الارتكان عليها يخفى ما وراء العنف من فشل للسياسات الحديثة للدول وفشل الحواضر العربية التى لا يمكن حكمها فى صورتها الحالية كما نرى فى مدن ليبيا من طرابلس الى بنغازى أو فى المدن السورية وبدرجات مختلفة فى حواضر اخرى مثل بغداد والقاهرة؟ السؤال المغاير، ترى لماذا لم ينتشر فكر التطرف فى دبى أو ابوظبى مثلا رغم قربها الجغرافى من مجال انتشار فكر بن عبدالوهاب؟ الفارق هو السياسات الحضرية وقدرة تلك المدن على الحياة ضمن سياسة حضرية واضحة المعالم على مستوى الاقتصاد والبنية التحتية وإشاعة الامل فى ان كل شىء ممكن تحقيقه حسب قواعد واضحة.
لو ان فكر بن عبدالوهاب ينتشر بهذه السرعة ويمتلك العقول والقلوب فى ليلة وضحاها لتغير العالم كله وأصبح وهابيا فى شهور. فى عالمنا العربى الأزمة هى أزمة فشل الحواضر العربية.
فى لندن مثلا توجد جماعات داعش والاخوان فى المناطق المهمشة وفى حزام الفقر، ولكن منطق مدينة لندن من حيث التخطيط العمرانى والاقتصاد، يجعل اى مواجهة بين ظاهرة «البغدادى» وظاهرة «فيكتورياز سكريت»، هى مواجهة بين لا «جهاد» والـ «جى سترينج»، وطبعا كفة الميزان بحكم الحياة تميل دائماً لمصلحة الأخيرة. ولو وجدت فى لندن ألف مدرسة لنشر فكر التطرف لفشلت لان منطق المدينة قادر على احتواء الكثير فهى مدينة حية (living organism).
ما يجعل مدينة مثل لندن قادرة على حماية مدنيتها، هى تلك القوانين الصارمة التى تحيط الفضاء الحضرى المدنى بسياج صارم مزود بأدوات الإثبات بالأدلة من كاميرات الى آخر الأدوات الحديثة، ايضا مدينة تحكمها سياسات حضرية (urban policy) تحافظ على بقاء المدينة كحاضرة عالمية تستوعب الجميع ليبقى عمدة لندن ربما اهم من رئيس الوزراء. ليس عندنا فى حواضرنا العربية ما يشبه لندن باستثناء دبى. لندن لها منطقها وذوقها وأخلاقها التى يتوافق عليها الجميع، الملتزم والمارق، فالاخلال بمنطق المدينة يجعل المدينة تلفظك سواء كنت فردا او جماعة. للحاضرة ثقافة متكاملة.
فهل اذا ما نظرت الى الحواضر العربية مثل القاهرة او بغداد او دمشق، هل هناك سلوك أو ملبس أو طريقة حياة يمكن ان تشير اليها على انها مخالفة لروح المدينة وذوقها؟ بعبارة اخرى ما هى هوية هذه المدن؟ هل هى مدن علمانية؟ ام إسلامية؟ ليس لدى مانع ان تعرف المدينة نفسها على أنها إسلامية بقوانين إسلامية واضحة؟ المهم الوضوح اما حالة المدينة فى الليل والقرية فى الصباح، فهذا لا يصنع حاضرة، وهذه هى الوصفة التى تنمو فيها داعش وأمثالها.
فى العالم العربى بوضعه الحالى نحن فى أزمة مدن غير قادرة على الاستمرار كحاضرة وكله نتيجة لسياسات سيئة لأهل البلاد ممن كانوا وريث الحالة الاستعمارية ولدى الجرأة ان اقول إن اهل البلاد منذ خمسين عاما حتى الآن فشلوا فى بناء حواضر ذات هوية واضحة وسياسات واضحة تجعلها قابلة للحياة. لا يكفى ان نلوم فكر محمد بن عبدالوهاب او غيره لتبرير ما يحدث، ما يحدث هو نتيجة منطقية لظاهرة المدن الفاشلة