أفضل المقالات في الصحف العربية

02:07 مساءً EET

العرب وفن «المش» ممكن

اعتاد العرب على تعريف السياسة على انها «فن الممكن»، ولا ادرى من سوق هذه العبارة فى عالمنا العربية بهذه الكفاءة وهذه السرعة التى وضعت هذا التعريف فى مصاف النصوص المقدسة وحفظه وردده الكثيرون،

 رغم ان أساس السياسة ومادتها هى عالم «المش» ممكن، أو ما هو ليس ممكنا وتحويله الى أمر ممكن ومحتمل ويمكن تحقيقه على أرض الواقع. تعريف السياسة فى عالمنا العربى على انها فن الممكن هو الذى أوصلنا الى الحالة التى نحن فيها والتى يكون فيها تقريبا نصف دول العالم العربى ضمن عداد الدولة الفاشلة، أو دول فى طريقها الى الفشل والسبب الرئيس فى ذلك هو اننا بدأنا بتعريفات خاطئة للسياسة. طبعا لدى ملحوظات كثيرة على تعريفات السياسة حتى فى سياقها الغربى مثلى مثل كل من درسوا علم السياسة كعلم. فبداية العلم هو تحديد المفاهيم وكيف يتم تحويل المفاهيم المجردة الى مفاهيم إجرائية يمكن تطبيقها على الارض أو تنفيذ خطط بناء على التعاريف المحددة للمفاهيم الأولية. 

السياسة لها تعريفات عدة مثل التعريف التقليلدى المعتمد فى العلوم السياسية وهو «توزيع إمكانات وكل ماهو ذو قيمة فى المجتمع بشكل مشروع ومقبول» وهذه ليست ترجمة حرفية لما قاله أستاذنا ديفيد ايستين صاحب نظرية تحليل النظم السياسية.  

 

تعريفات كثيرة للسياسة ليس من بينها فن الممكن والذى أظنه جاء نتيجة لدراسة علم التفاوض فى إطار الوصول الى الموافقة. ومع ذلك لو قبلنا بان هذا جزء من السياسة، يجب ان ندرك مع هذا المفهوم عيوبه. «السياسة هى فن الممكن» هو تعريف عاجز، وكذلك ايضا هو تعريف العاجز والفعل السلبى. اى نتعامل مع ماهو ممكن ونترك ما ليس ممكنا وبهذا تموت فكرة التغيير.

تعريف السياسة على انها فن «المش ممكن» معناه ان الدولة التى تحدث بها العمليات السياسية هى دولة حية تحول ما هو غير ممكن الى ماهو ممكن. تعريف توزيع الاستحقاقات، وكل ماهو ذو قيمة فى المجتمع يشكل فى عدالة تسمح لمعادلة الرضا  بين الحاكم والمحكوم بالاستمرار هو تعريف يدعو السياسى الى العمل بشكل لا يتوقف لإرضاء مواطنيه. لا يفعل ماهو ممكن، بل احيانا يفعل ماهو مستحيل لخلق توافق اجتماعى يجعل معادلة الحكم مقبولة ومستمرة». 

كتبت من قبل فى هذا السياق بطريقة اكثر تبسيطا وكان التركيز منصبا على الشأن المصرى وحده بعد ثورات 25 يناير و30 يونيو، ولكنى هذه المرة احاول ان اطرح الشباك بشكل يشمل العالم العربي. فالخلل الذى يحدث فى مصر على مستوى المفاهيم يكرر نفسه فى العالم العربى بأضعاف مضاعفة احيانا وبضرر اكبر.

 

هناك تعريفات للسياسة قادمة من عالم علاقات الدول ببعضها البعض مثل ان تقول ان تعريف السياسة هو : «ان تجعل الآخر يريد ما تريد». وهو تعريف ربما مغاير تماماً على العكس  من فكرة  فن الممكن الرائجة، فهذا التعريف ليس مرتبطا بالعمل السلبى،  والتعامل فقط مع ماهو ممكن بل مرتبط بالمبادرة والعمل الإيجابى. هذا التعريف قد يكون بداية معقولة للحديث عن السياسة فى العالم العربى داخل الدولة الواحدة، وبين الدول وبعضها البعض. اى انه تعريف يستخدم سياسة الإقناع وجاذبية النموذج، وليس التغيير عن طريق العدوان او العنف.

 

وسأنطلق من تعريف السياسة القائل بإقناع المنافس بأن ما تريده هو مفيد بالنسبة له أيضا فى محاولة لرسم ملامح بعض المفاهيم الحاكمة لمنطقتنا العربية

تعريف السياسةعلى أنها فن الممكن، فمعنى ذلك ان منطقتنا العربية ستظل تخوض فى الطمى الى أزمنة طويلة، ولكى نخرج من الوحل علينا ان نبدأ بتعريف السياسة على انها فن «المش ممكن» حتى لا يصيبنا الكساح الاستراتيجى. 

واحدة من التعريفات التى اطرحها اليوم هو ان «السياسة هى ان تجعل الآخر يريد ما تريد» اى ان يقتنع المنافس ، شخصا كان او منظمة او دولة، ان ما تريده هو فى مصلحته، ويجب ان يرغب فيه هو ايضا لان فيه فائدة له. فن الممكن يعتمد على استخدام محدود لأدوات القوة، بينما فكرة ان تجعل منافسك يريد ما تريد فهو استخدام خلاق لكل أدوات القوة  على إطلاقها. اى ان تستخدم القوة الناعمة القادرة على الترويج للفكرة والتأصيل الفكرى لعملية الإقناع بها لدى الطرف الآخر، بحيث لا يكون الإقناع مجرد تضليل للذات، والآخر بل مبنى على فكر متماسك. إذن التعريف الثانى للسياسة فيه استخدام لخليط من القدرات الصلبة و الناعمة معا بدرجات مختلفة وعلى مستويات متعددة للوصول الى تحقيق الأهداف. 

هناك فرق بين ان يريد العالم من حولنا، ما تريد كعرب مجتمعين وبين ما نريده كدول متفرقة او ما تبقى من عالمنا العربى ومازال يمكن تسميته دولة. ان يريد العالم ما نريد يعنى تطوير مفهوم حاكم للأمن القومى العربى ويجب ان يكون هذا هو المفهوم الحاكم لكل تصرفات دولنا، او الحاكم للحد الادنى من التصرفات. هو المفهوم الحاكم، وهذا يتطلب حكومة مختلفة ومؤسسات مختلفة وصيغة تعاون مختلفة. 

 

هذا يتطلب مجموعة إجراءات صعبة تقع فى إطار التنسيق بين وزارات الخارجية المختلفة ومستشارى الأمن القومى فى البلدان العربية المختلفة بحيث تكون تحيزات الوزارات على الأقل مربوطة بالتوجه الاستراتيجى لأمن قومى عربى مبلور بصيغة واضحة.

هناك مؤسسات مختلفة للأمن القومى العربى من مخابرات عامة فى بلدان مثل مصر والسعودية ولكن هناك مفهوما جديدا لمستشار الأمن القومى بدأ فى التبلور فى بلدان الخليج العربى. التنسيق بين هذه الأجهزة المختلفة ومستواه هو بداية الانتقال من عقلية السياسة كفن الممكن الى فن المش ممكن.

 

التحدى الاكبر أمام العالم العربى اليوم هو بناء قدرات الدول ومؤسساتها لتحمل القادم من الهزات وامتصاصها، بحيث لا يؤثر ذلك على الأوطان واستقلالها وسلامة أراضيها.  هذا يتطلب تشكيل رؤية عربية جديدة تتجاوز تعريف السياسة كفن الممكن الى تعريف جديد للسياسة هو ان تجعل خصمك ومنافسك يريد ما تريد أو السياسة كفن المش ممكن.

التعليقات