كتاب 11
متى يخرج العرب من «دولة المدينة»؟
بعد الربيع العربى وقبله كانت أزمة دولة مابعد الاستعمار فى العالم العربى هى أزمة مركزية حكم فى المقام الأول، أى أزمة دولة المدينة الواحدة،
مصحوبة بشرعية منقوصة واختلال فى معادلة الرضا بين الحاكم والمحكوم. دولة المدينة أو الدولة-المدينة هى نموذج حكم قديم بدأ فى اليونان وفى روما، تكون فيها الدولة مجرد مدينة محاطة ببعض القرى كما حال أثينا القديمة وروما والبندقية، دولة صغيرة بأراض محدودة وعدد سكان محدود، كانت فيها الديمقراطية مباشرة لقلة عدد السكان. هذا النموذج ليس سيئا بالمرة، فقد استطاعت روما والبندقية وأثينا ان تتمدد وتصبح إمبراطوريات، وذلك لتوافق عدد السكان مع حجم الأرض ومع أسلوب الحكم وثقافة الحكم فى منطقة ضيقة.
يحدث الخلل عندما يختل التوازن بين مساحة الارض وعدد السكان ونظام الحكم.
الدولة الأوروبية الحديثة التى توسعت وشملت العديد من المدن كرست نظام حكم ديمقراطيا يوزع الثروات والمهام بين المدن، فترى مثلا فى المملكة المتحدة او بريطانيا لندن كعاصمة مالية ومانشستر كعاصمة صناعية، ثم مدن إسكتلندا، جلاسجو وأبردين ثم مدن ويلز ومع ذلك شهدنا أخيرا محاولة إسكتلندية للاستقلال. الدولة الحديثة هى اكثر من مدينة واحدة توزع فيها الثروة بشكل يجعل عملية الحكم شرعية.
اذا ما نظرنا للدول التى أسقطتها مجموعات من الشباب الغاضبين فى السنوات الأربع الفائتة نجد ان معظمها ـ إن لم يكن كلها ـ دول تدعى شرعيتها على مساحات شاسعة من الاراضى والسكان والمدن ومع ذلك اختصرها الحكم فى مدينة واحدة.
فى حالة اليمن كانت صنعاء هى المدينة تتبادل عدن معها بعض الثقل فتتأرجح ما بين النزعة الانفصالية مرة وبين شبه الانهيار التام والحروب الأهلية مرة اخرى منذ يمن الإمام حتى الحرب الأهلية فى عام 1994، حتى فشل الدولة ما بعد الربيع لتسيطر عليها جماعة هامشية من الأطراف. دولة صنعاء كانت تدعى سيطرة وشرعية على كل اليمن ولم يكن لديها لا الموارد ولا الثقافة الطاغية لتشرعن حكمها لذا سقطت فى مستنقع مرشح لمزيد من الفوضى.
الحالة الليبية لم تكن تختلف كثيرا، حكم فى طرابلس تجاهل مناطق ومدنا فاختل النظام وقامت الثورة من مدينة غير مدينة الحكم هى بنغازى، وسقطت بعدها طرابلس، وسقطت معها دولة المدينة لتدخل البلاد فى أتون الحرب الأهلية، ورغم وضوح المشكلة فى ليبيا إلا ان الفيدرالية كنظام لم يكن من طروحات الليبيين كحل لدولة لا يمكن حكمها من المركز.
سوريا كانت دولة دمشق ففلتت الحزمة فى درعا وفى حمص وفى حلب، وبقيت موجودة فى اللاذقية فقط بحكم الطبيعة الطائفية للنظام، ورغم وضوح أسباب فشل دولة المدينة فى سوريا، الا ان المعارضة السورية مازالت ترى فى بشار الأسد فقط المشكلة رغم وضوح الفشل البنيوى لدولة المدينة، يريدون إزاحة بشار ويركبون هم على ذات البناء الفاشل. فى سوريا وليبيا واليمن حتى الآن تفكر المعارضات بنفس تفكير النظام بمعنى تغيير الأشخاص والتحالفات واستبدال شلة بشلة بديلة، شيعة بدلا من السنة كما الحال فى الحالة العراقية، او سنة بدلا من العلويين فى سوريا الى آخر السلوك السياسى لعقلية الطوائف والقبائل، غير مدركين ان الخلل فى بنية الدولة. الخلل فى تلك الفجوة بين المساحة التى تدعى الدولة سيطرتها عليها وبين حقيقة ضيق دولة المدينة مساحة وأفقا سياسيا. لا توسيع لشراكة ولا تمثيل لمناطق، فقط إحلال نخبة بنخبة.
أما الحالة المصرية فليست اكثر اختلافا لولا وجود ذلك النهر العظيم الذى يجعل من المجتمع مجتمعا نهريا أبديا، ولولا نهر النيل كشريان رابط للوطن منذ القدم لأدى الخلل القائم بين دولة المدينة فى القاهرة وبين بقية الأقاليم الى ذات الأزمة فى كل من اليمن وسوريا وليبيا وحتى تونس التى اشتعل فيها فتيل الثورة من الأطراف رغم صغر حجمها. طبعا وجود جيش قوى هو عامل اخر مهم، لكن مشكلة دولة المدينة فى مصر مازالت قائمة حتى بعد الدستور الجديد وما سمى بإعادة ترسيم الحدود الإدارية للمحافظات التى اشرف عليه كثيرون ممن لا يعرفون تعقيدات الوطن.
لوكانت هناك نية للوصول إلى نوع من الاستقرار فى دول الربيع فيجب ان يبدأ الحديث عن كيفية الخروج من دولة المدينة او دولة العاصمة. ما عدا ذلك فالحلول تبقى حلول مسكنات لربط الوطن ببعضه ثم ما يلبث ان ينهار بعد عشر سنوات. للوصول الى حل دائم لابد من التفكير فى صيغة حكم تجعل كل المواطنين فى كل المناطق شركاء بنفس النسبة فى مستقبل الوطن.
حتى الآن وبعد كل هذه التقلبات السياسية والعنف نحن نتحدث عن إحلال إسلاميين بدلا من عسكريين والعكس، ولكن المشكلة أعمق فى الطبقات الأرضية التى تقع تحت ظاهر الأمور من مدنية أو عسكرية او إسلامية.
ورغم ادعائى بأن النيل فى الحالة المصرية نجح فى الاحتفاظ بالمجتمع النهرى إلا أن دول الأنهار ايضا تتكسر وتنقسم فى حالات متطرفة لعدم التوازن وغياب عدالة التوزيع بين المدن، وأنهار المسيسبى والأمازون والكونجو أمثلة . أزمة الحكم فى العالم العربى هى أزمة دولة المدينة، والدول التى اعتمدت اكثر من مدينة للحكم مثل الإمارات العربية المتحدة (ابوظبى -دبي، مثلا) أو السعودية فى حالة (الرياض-جدة) استطاعت ان تتجنب موجات الربيع. البعض الآخر كان دول مدينة بطبيعته مثل قطر والكويت.
الدول العربية الكبيرة مثل مصر وسوريا وليبيا والجزائر واليمن ليس لها حل للاستقرار سوى إعادة طرح صيغة حكم جديدة تخرجها من اختلال التوازن بين السكان والمناطق، وبين المركز المتمثل فى دولة المدينة. دفن الرءوس فى الرمال وتحويل النقاش إلى طبيعة أخرى مثل إسلاميين وعسكريين، هو حديث عن عرض وليس عن جذور المرض، او تغيير طبيعة النقاش.
الدولة العربية الحديثة هى دولة مدينة فى معظمها، ولكى تتمتع بالاستقرار والشرعية معا لابد من حوار جاد حول طريقة الخروج من دولة المدينة الواحدة.