مصر الكبرى
“الإخوان” والتصفيق بيد واحدة!
طبعا يد واحدة لا تستطيع أن تصفق، هي فقط تضرب الهواء ولكن من دون صوت أو صدى، لعل الكثير من المتابعين اعتبروا أن هناك فتحا مبينا في سماء العرب بعد بدء ما عرف اليوم بـ«ربيع العرب» في أكثر من دولة وأكثر من عاصمة، مع كل ما صاحبه ويصاحبه من تبعات وتضحيات وألم. إلا أن نتاج الربيع الأولية، قد أوصلت حتى الآن ما يمكن أن يسمى «الإسلام السياسي» إلى سدة القيادة والحكم.
من قراءة التطورات حتى الساعة، يبدو أن هذا التيار الواسع الذي ظهر في مصر واليمن وليبيا، وقد يظهر في أماكن أخرى، هو الذي سيقود المرحلة القادمة من تاريخ العرب، كما قاد المرحلة السابقة تيار عسكري له شعارات قومية بعضها بأثواب مدنية. ينقسم المراقبون في تحليل الظاهرة إلى مدرستين: الأولى تقول إن الكتاب يعرف من عنوانه، وإن مرجعية هذا التيار الواسع بكل ما يحمله من مدارس واجتهادات وهي مرجعية شبه جامدة في الغالب، سوف تصدم ولا شك بتناقض بين الحداثة ومتطلباتها وبين الشعارات والأفكار الجامدة التي يحملها عن الحكم والسلطة، وهي لا تخرج عن نصوص عامة مرسلة تقود في النهاية إلى دولة ثيوقراطية لا تختلف كثيرا عما نشاهده في إيران، فهي والأمر كذلك، مؤهلة إلى فرض نوع من أنواع الشمولية التي سوف تضع المجتمع تحت وصاية مباشرة من التشدد، وتذهب هذه المدرسة إلى القول إنه حتى القوى المستنيرة في هذه التيارات – إن وجدت – سوف تغلبها التيارات المتشددة، لأن الجمهور يتعرف على التشدد ويألفه، حيث غذي هذا الجمهور طويلا بأن هناك عصرا ذهبيا قد مر على الأمة له مواصفات محددة، وأن هذه المجموعة من الناس سوف تعيد الأمة إلى ذلك العصر من جديد وإلى بريقه.
تتابع هذه المدرسة القول.. أما المستنيرون في تلك التيارات، فهم سوف يصدمون مباشرة بأسوار عالية من التفسيرات المستقرة لدى المدرسة التقليدية وهي الأوسع جماهيريا، وإن جاهروا بما يمكن أن يفهم منه حداثة أو قريب منها، يمكن أن يزاحوا من الطريق السياسي بسهولة.
المدرسة الثانية تقول بشكل عام اتركوا لهذه المدرسة الفرصة للحكم، فإن بها الكثير من الاستنارة وأيضا هناك قوى في داخلها سوف تستجيب – بعد الاحتكاك بمتطلبات الحكم – إلى متطلبات الحداثة، وقد تقدم تجربة تماثل إن لم تطابق التجربة التركية أو ربما الإندونيسية في أسوأ الحالات.
بين هاتين المدرستين يجري النقاش لدى الأوساط المهتمة بمستقبل المنطقة العربية، وهو نقاش مستحق ودائر، إلا أنه لا يأخذ المركزية في الانتباه العام اليوم على أهميته، على ضوء انشغال العرب بما يحدث مثلا في سوريا وما يحدث في فلسطين من أحداث يومية تجذب المتابع وأيضا القارئ لإعطائها أولوية في التفكير والتداول، أو بسبب الحماس الذي صاحب التغيير. مدرسة الاستنارة التي أولت المواءمة بين مبادئ الإسلام والأوضاع السياسية تفكيرها الجامع، مع الأسف انقطعت في سلسلة التفكير منذ أن بدأ أشخاص مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومن جاورهما في الاجتهاد من المعرفيين في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين، كانت البيئة السياسية العربية وقتها تتطلع إلى دولة إسلامية حديثة، فكانت الاجتهادات منصبة على المواءمة بين مبادئ الإسلام وممارسة الحداثة في محاولة التأكيد للغرب المستعمر أن العرب المسلمين يستطيعون أن يبنوا دولة حديثة على قاعدة إسلامية لا تتعارض مع التنوير ولا تقاتل الآخر. ولعل الشيخ محمد عبده قد أبحر كثيرا وعميقا في شرح تلك المبادئ – ليس من دون أن يجد من يكفره أيضا. إلا أن تلك المدرسة قد طوتها الأحداث وانقطعت عن التطور، لعدد من الأسباب منها التطورات التي تركتها آثار الحربين العالميتين على المنطقة من استعمار ومعارك التخلص منه، كما تركت بصمات سلبية بين الاجتهادات الإسلامية التي مالت أو ربما اضطرت – يعتمد الأمر على الزاوية التي تنظر منها – إلى استخدام العنف ضد المخالفين، سواء الدولة أو القوى الاجتماعية المخالفة، كما دخلت الدولة (ذات البنية العسكرية) في صراع مع تلك القوة القائلة بالإسلام السياسي فاستنزف الجهد في المقاتلة بدلا من التفكير في البناء.
التاريخ الحديث والمعاصر مليء بأمثلة الصراع بين الدولة العربية والتيارات الإسلامية، من حرب الإخوان المسلمين على الدولة البرجوازية المصرية، إلى حربهم ضد «الناصرية» التي أدت إلى صدام دموي قاس وطويل قامت هي بحربهم، إلى الصدام في سوريا والذي دفعت فيه أثمانا باهظة من الدم انتهى بتجريم من ينتمي إلى «الإخوان» بجرم الخيانة العظمى، بعد مذبحة مدرسة المدفعية في حلب (يونيو/ حزيران 1979) إلى مجزرة حماه (فبراير/ شباط 1982) مع عدد من المذابح الأصغر التي تتكرر اليوم، ولكن تطول هذه المرة قطاعات أوسع من الشعب السوري. التاريخ الصراعي يطول سواء كان صراعا ناعما أو خشنا ولكن المهم ما تركه هذا الصراع من نتائج على الاعتدال أو التفكير في نموذج عملي للدولة.
لقد تغلبت نظرية المغالبة والفتك بالأنظمة القائمة على طريقة الجهاد المسلح، كما قابلت الأنظمة تلك القوى – في الغالب – بمدرسة الفتك المضاد وتعليق المشانق وفتح أبواب السجون. في هذه الأجواء التي سادت في معظم سني النصف الثاني من القرن العشرين، تخلف التفكير في تطوير نظرية حكم على قاعدة إسلامية توائم بين الحداثة وبين التراث مواءمة ناجحة، الاجتهادات كانت قليلة وبقيت محصورة بين النخبة من غير العاملين الميدانيين، ولم تنزل الأرض. على الأرض كان هناك سخط واسع على انكباب معظم الأنظمة العربية بالتنكيل بتلك الجماعات والمتعاطفين معها، قوبل باشمئزاز من قبلها من الحلول الوسطى، فساد طريق مسدود على الاعتدال والتفكير المنطقي الحر بعيدا عن الضغوط القانونية والبوليسية.
من بعيد بدا لبعض الإسلام السياسي العربي أن التجربة التركية يمكن أن تكون جاذبة، فلما اقترب منها وجد الجميع أن لها خصوصية لا يستطيعون تبنيها، فهي قد خرجت من عباءة الأتاتوركية التي حدّثت المجتمع التركي إلى درجة أن ثمار التحديث المحققة لا يمكن للشعب التركي الاستغناء عنها، وجاء تيار العدالة والتنمية ليعطي تلك الحداثة روحها القيمية والأخلاقية بمظلة إسلامية، الاختلاف اتضح لما زار رجب طيب أردوغان مصر وتونس في سبتمبر (أيلول) 2011 عقب أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، وقبلها أحداث ديسمبر (كانون الأول) 2010 التونسية، التي ما زالت ساخنة، حيث استقبل بحماس ثم قال قوله المشهور «نحن حزب إسلامي في دولة علمانية»!.. لم يرق لكثيرين لا في مصر ولا في تونس مثل هذا الكلام، بسبب أن التثقيف الشعبي والتجربة المرة مع الأنظمة العربية لم تترك فرصا للتفكير في التطوير المنهجي الفكري لمواءمة حديثة ببناء دولة مدنية في البيئة العربية، كما أن التجربة العربية تفتقد إلى بناء اقتصادي متين تتكئ عليه، كما هيأته التجارب التركية تحت أنواع من الأتاتوركية منذ بعيد الحرب العالمية الأولى فتحقق نوع من المجتمع الصناعي الحديث.
باختصار ليس لدى تيارات الإسلام السياسي العربي بعامة امتياز أو مزية أو حتى حصانة التيار الإسلامي التركي، مما يجعل هذا التيار أميل إلى التصعيد العاطفي والدعوة الأخلاقية أو حتى ربما الدخول في مغامرات داخلية أو خارجية وتقديم المجتمعي على السياسي، بل وعلى الاقتصادي.
عيون العالم على مفردات الدستور المصري المرتقب، وأيضا على الدستور الدائم في تونس وأيضا ليبيا، وربما اليمن، فعلى نصوص تلك الدساتير يمكن القول إن التيار الإسلامي السياسي العربي يمكن أن يصفق بيدين، كناية عن حمل كل تيارات المجتمع معا إلى دولة مدنية حديثة، أم أنه سوف يغني أغانيه السياسية منفردا أو يصفق بيد واحدة تمهيدا لقمع قادم! ستجيب الأيام والشهور القادمة على هذا السؤال المركزي.
آخر الكلام:
واحد من أهم مصادر تجميل الصورة التركية ما فعلته المسلسلات التلفزيونية في مخيلة المشاهد العربي الذي تسمر أمامها ثم اندفع يطوف بالمدن التركية سائحا ومشجعا للصناعة التركية، في الوقت الذي بدأ فيه تصريحا وتلميحا تهميش الفن العربي من موسيقى وغناء، بل وتقديم بعض الفنانين إلى المحاكمات!.. مرة أخرى خوفي من التصفيق بيد واحدة!
نقلاً عن: الشرق الأوسط