كتاب 11
حروب جديدة!
منذ تطورات أحداث الربيع العربي، والروس والصينيون كانوا يوضحون بشكل أو بآخر وبأسلوب مباشر وغير مباشر أن لديهم تحفظات ومحاذير واعتراضات على ما حصل. كانوا ينظرون بريبة هائلة لأسلوب الحراك المفاجئ للجماهير، حراك «القطيع» الموجه عن بُعد بالمواقع الإلكترونية وتوظيف التقنية «الغامض والفعال جدا» لأجل جمع الناس وترويج الشعارات الجذابة والمؤثرة والمحركة للمشاعر من خلالهم.
كانا يراقبان تلك الأحداث بقدر غير بسيط من القلق والحذر والشك والخوف والريبة. كانت هناك قناعة متزايدة أن الربيع العربي ما هو إلا معمل تجارب للجائزة الكبرى، والجائزة الكبرى في نظر الدولتين هي إحداث اضطرابات مؤثرة وفعالة في العمق الروسي والصيني لصالح قوى الغرب التي لا تستطيع المواجهة بالشكل التقليدي القديم، وذلك بالسلاح والحروب المباشرة. وقد بدأت روسيا تعي ذلك في أكثر من موقع؛ رأت ذلك إبان الانتخابات الروسية، ثم إبان دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي، وأخيرا من خلال أحداث أوكرانيا التي عدت أنها وجّهت لها صفعة سياسية مهولة أدت إلى سقوط أحد أهم حلفائها، بنفس المشهد والأسلوب الذي حصل في ميدان التحرير المصري تماما، ولكن تكرر هذه المرة بالنسخة الأوكرانية المعدلة، فكانت بمثابة إنذار عظيم لما يمكن أن يحصل لروسيا في مناطقها الاثنية الهشة الأخرى ذات العرقيات الخاصة مثل الشيشان وداغستان وغيرهما، لو جرى «تحريك» الحشود هناك بنفس الطرق السابقة.
والصين تستفيق هي الأخرى لتدرك أبعاد ما يحصل الآن في هونغ كونغ، وذلك مع توسع حراك «مؤيدي الديمقراطية» وارتفاع سقف مطالبهم وتوسع تهديداتهم وعدم انصياع المسؤولين الصينيين لأي من المطالب التي جرى التصريح بها تماما. وهناك «عناد سياسي» واضح من قبل الصينيين الذين يرفضون مجرد التحدث عن مطالب المحتجين لما يرونه من انتقاص واضح من سيادتهم وشرعيتهم وهيبتهم ومكانتهم.
الصين تبدو حذرة جدا، وقلقة في آن واحد، في التعامل مع هذه الأحداث المقلقة بالنسبة لها؛ فهي حذرة من جهة أنها لا تريد أن تنجرف وتنزلق في مستنقع آخر كما حصل لها منذ فترة غير بعيدة، عندما تعاملت مع احتجاجات سياسية في ميدان «تيان آن مين» الشهير بالعاصمة بكين، وأدى الأسلوب القمعي الشديد إلى مقتل الكثيرين وجرح العديد واعتقال العشرات، إضافة إلى «سمعة» سيئة جدا على صعيد ملفات حقوق الإنسان ظلت تلاحقها في كل التغطيات الإعلامية المختلفة لكل الأحداث التي تحصل سواء أكانت أحداثا سياسية أم اقتصادية أم حتى رياضية، كانت ذكرى «ميدان تيان آن مين» وأحداثه المأساوية بمثابة كابوس بشع يطارد الصين وساستها. والصين تريد التعامل بعقل وحكمة مع ملف هونغ كونغ واحتجاجاتها الموجهة، لأن لديها مخاوف جادة من أن يتوسع صدى هذه الاحتجاجات ويصل لمنطقة التبت، أو المنطقة ذات الوجود الإسلامي المهم كالإيغور، وكلتا المنطقتين حصل فيهما ما يكفي من القلاقل والاضطرابات والمطالب الانفصالية مما يجعل مخاوف الصين محقة وذات مغزى مهم.
«الحراك» وصل لروسيا والصين، ويبدو أنه لن يغادر بسهولة، ومعمل التجارب الذي كان في العالم العربي وصل إلى مسرح أكبر، ولكن أكثر تعقيدا وأهمية.
الصراع الجديد لم يعد صراع سلاح، ولكن صراع تعطيل وإشغال لوقف التمدد السياسي والنمو الاقتصادي وإبطائه لمصالح آخرين. إننا دخلنا عصرا جديدا من المواجهات والحروب، عصر الحروب الإلكترونية عن طريق أطراف أخرى.. حروب تحسب فيها الخسارة والفوز بأساليب مختلفة تماما.