مصر الكبرى

09:44 مساءً EET

وردة : تاريخ جميل من الغناء والحب على أرض مصر

عاشت بين ألحان عبد الوهاب ، السنباطي وبليغ حمدي العاشق لصوتها
جاءت النهاية الحزينة في القاهرة التي احتضنت مجدها وشهرتها على مسرح الفن
كتبت – مروة فهمي :
رحلت وردة وبقى مشوارها الغنائي الطويل . غابت عنا بجسدها لكن فنها ومسيرة حياتها عناوين كبيرة ستظل تبرق في الذاكرة وتسعدنا كلما استمعنا إلى أغانيها وشاهدنا أفلامها القليلة ، التي تركت من خلالها بصمة واضحة .

غابت المطربة القديرة وفارقت الروح الجسد وهي في القاهرة ، التي شهدت انطلاقها وترحيب المصريين بها . لقد عشق المصريون صوت وردة القوي والمتدفق وعناقه الشديد لحنجرة فيها الكثير من الجمال والقدرة على بث الفرح وإثارة العواطف .
نشأت في منزل يحب صوت وردة . وكان والدي يشجعني ويزرع في قلبي الصغير غناء الأناشيد الوطنية المحبة لمصر وتاريخها . وكان دائماً يدفعني للوقوف على المسرح وعمري لا يتجاوز العشر سنوات حيث كنت أشدو بأغنية < مصر هي أمي > . وأديت هذه الأغنية في حفل بذكرى انتصارات جيش مصر في حرب أكتوبر المجيدة .
كان الحفل على مسرح الجلاء وهناك إلتقيت بالمطربة وردة التي شجعتني في لقاء معها بحضور والدي المعجب بصوتها وطريقة الآداء الرائعة لترديد أغانيها .
أذكر تشجيعها لي بالاستمرار في طريق الغناء وامتدحت صوتي ، غير إنني طريق العزف الكلاسيكي على آلة الكمان . لكن ذكرى لقاء وردة بمسرح الجلاء ظل دائماً يرافقني في مشوار حياتي ، خصوصاً رقتها ونبلها وحفاوتها بنا . وكان معنا في هذا الوقت المطربة أنغام وهي تخطو في أيامها الأولى نحو عالم الغناء الذي تألقت فيه .
نشأت على حب صوت وردة . وكنت دائماً ولا أزال أحب مشاهدة فيلمها الأول < ألمظ وعبد الحامولي > على الرغم من أسلوب فج في الإخراج استخدمه حلمي رفلة الذي صور قصة المطربة الشهيرة مع عبدو الحامولي في إطار يعادي التاريخ و عصر الخديوي إسماعيل بطريقة منفرة ، تثير الغثيان ، مع إنه مشيد دار الأوبرا القديمة والمكلف للموسيقار الإيطالي < فيردي > بتأليف أوبرا عايدة .
فتنتني وردة في هذا الفيلم بأعذب أغانيها من ألحان عبد الوهاب ، فريد الأطرش وبليغ حمدي . وقدمت وصلات من الآداء المتنوع يعبر عن مدارس مختلفة في التلحين وأذواق لموسيقيين كبار بصوتها الرائع والجذاب .
فيلم ألمظ وعبدو الحامولي تم انتاجه في عام 1962 عن قصة لعبد الحميد جودة السحار وتمثيل حسين رياض مع شكري سرحان وبالطبع عادل مأمون الذي كان بدوره النجم الصاعد في سماء الغناء حيث يوحد عبد الحليم حافظ مع فريد الأطرش ، محمد فوزي ، ماهر العطار ومحرم فؤاد وعشرات من مطربين وأجيال في هذا العصر الذهبي للغناء المصري .
جاءت وردة إلى مصر وهي ممتلئة بأصوات رائعة تهيمن على الساحة ، لكنها استطاعت شق طريقها حيث لم تقلد وانفردت بمساحة وسط بين آداء فايزة أحمد وصباح وسعاد محمد ونجاح سلام .
نجاح وردة في القاهرة قصة تؤكد على نوعية الثقافة المصرية التي تفتح أبوابها وترحب بالأصوات الجميلة وتفرش أمامها الزهور للنجاح والتألق .
قصة وردة هي ذاتها حكاية فايزة أحمد السورية ، التي جاءت للقاهرة وانطلقت بصوت قوي إلى القمة في فترة قصيرة للغاية ، وغنت أعذب الألحان لمحمد عبد الوهاب ثم انتقلت إلى الموجي وكمال الطويل واستقرت لفترة طويلة على ألحان زوجها الملحن محمد سلطان قبل الانفصال عنه . كانت القاهرة دائماً تفتح أبوابها للوافدين إليها من أنحاء العالم . وقد رحبت مبكراً بالمطرب والملحن فريد الأطرش وشقيقته أسمهان حيث لجأت أسرتهما من الشام السوري للاستقرار في قاهرة كانت تمتلئ بالصالات الفنية وتدخل مرحلة الفيلم الغنائي حيث أنتج لهما جبرائيل تلحمي فيلمهما الأول < انتصار الشباب > الذي نجح بشكل ساحق ودشن وجود المطرب الكبير فريد الأطرش وبجواره أسمهان التي ظلت تلمع حتى رحيلها المفاجئ غارقة في مياه ترعة بالقرب من رأس البر .
وقد نجحت نور الهدى التي اكتشفها يوسف وهبي في لبنان وعاد بها إلى مصر وظهرت في أفلام غنائية مع فريد الأطرش وغيره . وظلت تغني حتى اختارت الانعزال والاحتجاب في جبال لبنان حتى رحيلها .
قصة الغناء في مصر تعبر عن وجدان شعبي مصري يرحب بالأصوات الجميلة ويفتح أمامها كل الأبواب ويكفي ذكر توهج المطربة صباح التي هيمنت على قلوب المصريين لفترة طويلة . وقد شهدت القاهرة نجاح وردة وتربعها على العرش وغنت لعبد الوهاب وتألقت مع السنباطي ومجموعة الملحنيين الذين ظهروا في عصر الغناء الذهبي الذي ساد بموجات لحنية وصوتية جديدة .
تنافست وردة مع صباح ، نجاة ، فايزة أحمد ، هدي سلطان ، نازج وفي النهاية اختارت قمة خاصة بها مع مرحلة تعاونها الشديد الإثارة مع الملحن بليغ حمدي الذي صنع لها أجمل الالحان التي تدفقت من داخل عش الحب والزوجية الذي جمعهما معاً في قارب واحد. وقد إلتقت أيضاً مع ألحان الشيخ سيد مكاوي حيث أدت له لحنه الجميل < أوقاتي بتحلو > . وغامر بليغ مع وردة في تقديم مسرحية غنائية على المسرح هي < تمر حنة > وأدت المطربة عشرات الألحان بصوتها الجميل لبليغ حمدي في أعمال رائعة مثل < وحشتوني > و < لولا الملامة > و< لو سألوك يا حبيبي > . بالإضافة إلى العشرات من الألحان البديعة بأسلوب بليغ الموسيقي حيث الجرأة والاكتشاف في تجريب الجمل الموسيقية التي تستلهم التراث بإيقاع معاصر . وحافظ الملحن على خصوصية صوت ورد حيث كان في هذا الوقت نفسه يعطي شادية أجمل الأعمال التي غنتها بموسيقاه الجميلة والشابة .
ومن الممكن القول أن وردة نجحت في عصر المطربة شادية التي كانت مغرمة بدورها تجريب كل الألوان حيث انتقلت من الأغنية الخفيفة المرحة إلى الأخرى الطويلة نسبياً حتى المرحلة التي بدأت تشدو فيها بالكلمات الروحية المبتهلة والمرددة للأدعية .
في عام 1973 مثلت وردة في فيلم من إخراج حسن الإمام ورشدي أباظة ويوسف وهبي حمل إسم < حكايتي مع الزمان > واستخدم الاخراج الأسلوب الميلودرامي في عرض قصة حب اجتماعية بطريقة في تشويق وبعض الإثارة .
عادت وردة إلى السينما بهذا العمال الذي حقق نجاحاً نتيجة لألحان بليغ حمدي الجميلة . وقد احتجبت المطربة عن السينما وتفرغت لمسيرتها الغنائية . وكانت قد غابت عن مصر و الفن لسنوات ليست بالقصيرة ، لكنها عادت مرة أخرى بإصرار على استرداد ما ضاع منها خلال هذه الأيام .
يميز تلك المرحلة اللقاء مع الملحن المصري صلاح الشرنوبي ، الذي جاء إلى المسرح الغنائي بجمل شبابية جديدة تعتمد على الإيقاع والنغمات الراقصة . جددت وردة فنها بهذه الأعمال الجميلة والرشيقة مثل < حرمت أحبك > ثم جاءت أعمال أخرى في هذا الإطار . وكأنها غيرت جلدها لتتوافق مع أغنية شبابية غمرت المشهد الغنائي المصري والعربي .
عندما بدأت وردة مشوارها الفني ظهرت أولا بأسلوب كلاسيكي تقليدي أقرب إلى أم كلثوم ثم تفاعلت مع ألحان عبد الوهاب وفريد الأطرش وموجة الطويل ومحمد الموجي واستقرت مع تجارب بليغ حمدي في تجسيد الكلمة بنغمات رشيقة تقفز بلغة التعبير الجميل .
وقد أعادت غناء لحن فريد الأطرش البديع < أحبابنا يا عيني > بطريقة تمتلئ بالشجن والآداء الانفاعالي المثير للعواطف الجياشة . وتفوقت على صانع اللحن نفسه الذي أداه من قبل بصوته .
اختارت المطربة في مرحلتها الأخيرة التناغم مع المدرسة الجديدة التي قادها الشرنوبي مع مجموعة من المجددين والاستجابة لإيقاعات < الديسكو > السريعة اللاهثة .
سعت < وردة > بنفسها إلى التجديد والنزول إلى ساحة الشباب بهذا الصوت الجميل والرائع .
لم تكن حياتها في القاهرة سلسلة من النجاح ، إذ كانت هناك صعوبات اندفعت في مسار الحياة السياسية الوعرة والظروف الأخرى الشخصية من حب وزواج ثم طلاق وخروج من مصر والاحتجاب لمدة عشر سنوات ثم العودة مرة أخرى .
أحب المصريون وردة الجزائرية لأنه الصوت القادم من بلاد أحبوها وارتبطوا بها ، على الرغم أن المطربة ولدت وعاشت في مناطق المهاجرين الجزائريين في باريس .
وردة تصنف ضمن الغناء المصري فقد عاشت في رحابه وعبرت عن مدارسه الموسيقية والشعرية وإيقاعاته . وهي تغيب عن الدنيا أثناء وجودها في مصر وذلك علامة بليغة على هذا الارتباط الحميم بهذه الأرض .
غابت الفنانة التي اربتطت بها أجيال مختلفة ، لكنها ستظل موجودة في الذاكرة والوعي وسيبقى صوتها الجميل حاضراً بكل زهوه وأناقته

التعليقات