مصر الكبرى
حديث المناظرة 2: نظرة نقدية للأداء الإعلامى والسياسى
رغم مرور نحو أسبوع على المناظرة الرئاسية بين كل من عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح، إلا أنها لاتزال تستحق الوقوف عندها بنظرة فنية تحليلية تتجاوز ردود الفعل السريعة لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة سياسيا وإعلاميا.
وهناك شبه اتفاق على النقد الموجه للمناظرة بقصر المشاركة فيها على كل من أبو الفتوح و موسى. وقد برر البعض هذا القرار بأنهما أقوى المرشحين طبقا لاستطلاعات الرأى العام. وهو تبرير خاطيء فى تقديرى، لأن هذه الاستطلاعات فى مصر ليست دقيقة وكثيرا مانجد التضارب فى نتائجها. ولكن حتى لو افترضنا صحتها، فإن دور المناظرات هو أن تعطى الخيارات أمام المشاهد لا أن تدعم التوجهات السائدة لدى الرأى العام ، وهى توجهات تعتمد فى مثل هذه الظروف على معرفة الناخبين بالمرشح أو شهرته وليس على برامجه. فتأتى المناظرات فى هذه الحالة لتطرح الخيارات البديلة أمام الناس وليس غلق باب المنافسة. هذه المناظرات يجب أيضا أن تنظمها لجنة محايدة تحدد معايير المشاركة فيها للمرشحين طبقا لنسبة تأييدهم فى الاستطلاعات، ومكان وتاريخ كل مناظرة ومن يديرها،على أن تترك مفتوحة لكل القنوات حتى لاتتحول المسألة إلى اتفاقات خاصة أوصفقات بين المرشحين وبعض القنوات وهو ماأفضت فيه فى المقال السابق.
لكنى أود التركيز هنا على تقييم المناظرة كما شهدناها. فهى تجربة أولى تصبح معها الأخطاء أمرا طبيعيا متوقعا، وأنا هنا عندما أرصد ماأراه منها فليس ذلك من منطلق انتقاد الزملاء الإعلاميين أو المرشحين، لكنها محاولة لتوضيح بعض السلبيات كما رأيتها بحكم خبرتى المرتبطة بالإعلام السياسى فى الولايات المتحدة، لكى يتم تفاديها فى المناظرات القادمة.
بداية أشيد بهدوء  أعصاب منى الشاذلى ويسرى فودة وهو أمر مطلوب فى أجواء المناظرة الساخنة. ولكن لفت نظرى التزامهما المطلق بالقيود المفروضة قبل المناظرة بينما يتطلب الأمر بعض المرونة عند التنفيذ. فعندما سأل موسى أبو الفتوح عن مفهومه للشريعة قطعت منى الحوار لانتهاء فقرة طرح الأسئلة المتبادلة بينهما، وانتقلت لمناقشة قضايا أخرى على اعتبار أن أبو الفتوح سيجد فرصة للرد بعد ست دقائق نسى خلالها الناس والمرشحون أنفسهم هذا السؤال. وعندما تبادل المرشحان الحديث وأحيانا الاتهامات الساخنة تدخل يسرى وقطع الحوار لانتهاء الوقت المحدد. فى هذه الظروف ينبغى أن يتحلى المذيع بقدر من المرونة ويسمح ببعض الوقت الإضافى بما لايخل بالإطار العام أو يطغى على أوقات الموضوعات الأخرى. وبمناسبة الوقت فقد ضاع منه الكثير فى طرح السؤال على كل مرشح ثم إعادته حرفيا على المرشح الآخر، فالإعادة هنا غير مطلوبة خاصة أن السؤال مكتوب على الشاشة. كما أنه لابأس أحيانا من طرح أسئلة متنوعة على المرشحين تتناسب مع شخصية كل مرشح وتجربته الخاصة والانتقادات الموجهة إليه. لوحظ أيضا أن بدء مرشح بالإجابة يعطى الفرصة للمرشح الآخر لتجهيز إجابته، لذلك أعتقد أن أبو الفتوح تفوق نسبيا فى "الشوط الأول" ثم انعكس الوضع فى "الشوط الثانى" عندما انتقلت ميزة الوقت والاستعداد لصالح موسى. لذلك ينبغى أن يتم التبادل بين المرشحين فى ترتيب الإجابة من سؤال لآخر وليس بالطريقة التى تمت.  
كانت مقدمات المذيعين أيضا أطول مما ينبغى وغلب عليها الطابع الإنشائى وإن كنت أتفهم البعد التاريخى للحدث الذى ألقى بظلاله على الجميع. ثم إن نظر المذيع إلى الكاميرا عند طرحه السؤال ليس مطلوبا لأنه يتوجه بسؤاله إلى المرشحين وليس الجمهور. أما بالنسبة للمرشحين فلم ينظر أى منهما إلى الكاميرا على الإطلاق بما يعنى أنهما تدربا على المناظرة دون وجود مدربين محترفين. فعندما يتحدث المرشح فى البداية إلى الناس ليقدم نفسه فإن النظر إلى الكاميرا يصبح ضروريا، وكذلك الأمر فى الكلمة الختامية. أما أثناء المناظرة ذاتها فهنا تتباين النظريات حول ماهو الأفضل: النظر إلى الكاميرا أم إلى المحاور أو إلى الجمهور فى حالة وجوده. وقد طبق نظرية النظر الدائم إلى الكاميرا جوزيف ليبرمان فى مناظرة المرشحين لنائب الرئيس مع ديك تشينى عام 2000، لكنى شخصيا لم أجدها ملائمة لأن فيها افتعالا.
من ناحية الصورة لم يعجبنى كثيرا ديكور المسرح الذى وقف عليه المرشحان فلم يكن فيه عمق خلفهما وكان المرشح يبدو مقيدا داخل الإطار المرسوم خلفه، كما كان اللون الأزرق فى الخلفية "غامقا" وقاتما ويجب "فتحه" بعض الشئ فى المناظرات القادمة. أدهشنى أيضا تركيز الكاميرا على المذيع أو المذيعة فى الوقت الذى تزداد فيه حرارة الحوار بين المرشحين، وهو مايذكرنى بمخرجى مباريات الكرة عندما يتركون الملعب والأهداف لعرض صور ضيوف المنصة أو فتاة حلوة بين الجمهور.
أيضا هناك تكنيك متبع فى المناظرات الأمريكية بأن يتم تقسيم الشاشة إلى نصفين، لوضع صورة المتحدث فى أحدهما والمرشح الآخر فى النصف الثانى من الشاشة لأن رد فعله وملامح وجهه  ولغة الجسد أحيانا تنطق بالكثير. وقد خسر آل جور مناظرته الأولى مع جورج بوش عام ألفين لهذا السبب حيث كان يبدو ممتعضا متذمرا وينفخ أحيانا بما جعله موضع سخرية البرامج الكوميدية. فهى مناظرة تليفزيونية يكون للصورة فيها دور لايقل عن الكلام. وبهذه المناسبة فإن جون كيندى تفوق تليفزيونيا فى أول مناظرة فى التاريخ عام 1960 على ريتشارد نيكسون رغم أن من استمعوا إلى المناظرة فى الإذاعة قالت أغلبيتهم إن نيكسون كان هو الأفضل.
 هنا أيضا ألفت النظر إلى الدقات التى تستمر فى الثوانى العشر الأخيرة من الوقت المسموح به للضيف. فالإشارة للمرشح يجب أن تكون ضوئية لاصوتية مزعجة. وفى المناظرات الأمريكية يتم  غالبا استخدام الضوء الأصفر أولا مع اقتراب نهاية الوقت ثم اللون الأحمر مع انتهائه مع رنة واضحة، لكن المذيع كثيرا مايبدى المرونة عند التطبيق بحيث يسمح للمرشح بإنهاء فكرته أو جملته  على الأقل وليس كما حدث فى تلك المناظرة.
أمر آخر ربما يمكن معالجته مستقبلا، فعندما سأل موسى أبو الفتوح عن عبارة قالها بشأن حرية الانتقال من المسيحية إلى الإسلام أو العكس، قدم أبو الفتوح صياغة مختلفة لها. فى مثل هذه الحالات يمكن أن يكون هناك فريق بحثى متمرس يعمل فورا على استخراج هذه العبارة سواء بالفيديو أو نقل صياغتها الحرفية للمذيع الذى يمكنه أن يعود للموضوع وينقل للمرشحين ألفاظ العبارة كما جاءت مع’إمكانية التعليق عليها إذا تطلب الأمر ذلك. وإذا لم يحدث ذلك أثناء المناظرة فإن البرامج الحوارية التحليلية يمكنها القيام بهذا الدور.
إننى هنا لاأطلب وجود جمهور يطرح الأسئلة من داخل القاعة أو عبر الستالايت، أو المشاركة مع الفيس بوك أو يوتيوب فى تنظيم المناظرة لأن هذا يتطلب إمكانيات وخبرة نأمل أن تتوافر فيما بعد، ولكن ماذكرته يمثل فى اعتقادى أساسيات لاتحتاج الكثير لتطبيقها.
أما بالنسبة للمرشحين فقد ذكرت سابقا موضوع النظر إلى الكاميرا للحديث إلى الجمهور مباشرة خاصة فى الكلمة الافتتاحية والختامية، لكن يمكن ايضا إضافة بعض الملاحظات فى هذا الشأن:
البداية كانت أكثر قوة لعبد المنعم أبو الفتوح. فبينما كان موسى يتحدث مثلا فى العموميات عن عدالة مطالب الاحتجاجات الفئوية، جاء أبو الفتوح ليركز على مشاكل وقضايا محددة تمس لقمة العيش و حياة الناس مباشرة بما يجعله أكثر قربا وتأثيرا، وأعتقد أن هذا استمر فى الكثير من القضايا الداخلية. لكن موسى كان أكثر استعدادا للمناظرة فى القضايا التى أراد طرحها. وقد عمد للاستشهاء بالشيخ الشعراوى عند الحديث عن الأحزاب الدينية، وقام بتجهيز عبارة قالها  مرشد الإخوان السابق للرد على الاتهام المتوقع بارتباطه بنظام مبارك، وكان فعالا فى الحالتين حيث أعطى لنفسه غطاء دينيا. أما أبو الفتوح فلم يكن مستعدا بما يكفى للرد على الاتهام المتوقع بأنه يقول لكل تيار مايحب أن يسمعه منه حتى لو تعارض مع تعهداته لتيارات أخرى.
أما أهم اللحظات الفارقة فى اعتقادى فكانت عند الحديث عن الموقف من إسرائيل، فقد استخدم موسى خبرته الدبلوماسية الطويلة لاستخدام عبارات توضح التناقضات والخلافات القوية مع إسرائيل دون أن يجيب بنعم أو لا على سؤال : هل إسرائيل عدو؟ فالإجابة بلا تتناقض مع مشاعر الناس، وهو يعلم أن الإجابة بنعم لها معنى ومدلول وتؤدى إلى نتائج قد لاتتفق مع المصالح العليا لمصر. أما أبو الفتوح فانساق وراء عبارات العداء لهذا "الكيان" ، وبكلمات عنيفة استخدمها كثيرا فى السابق، لكنى كنت أتوقع منه أن يدرك أن هناك فارقا بين حديثه كناشط سياسى وسط المظاهرات،  وبين كلماته الآن كمرشح رئاسى تحسب عليه كل كلمة خاصة لو قدر له الفوز، فعليه أن يزن كلماته بدقة ولايتحدث بعبارة إلا إذا كان مستعدا لتبعاتها.
لكن موسى لم يكن موفقا تماما فى الكلمة الختامية، فهى الأهم فى المناظرة لأنها تترك الانطباع الأخير لدى المشاهد. لذلك يتدرب عليها المرشحون جيدا بالحديث مع النظر إلى الكاميرا على أن تكون عباراتهم قوية ومركزة وإيجابية، يوضح فيها لماذا هو فى السباق ولماذا ينبغى التصويت لصالحه، مع إعطاء نظرة متفائلة للمستقبل والإيحاء بالثقة فى قدرته على الإنجاز. لكن موسى أضاع الدقيقتين فى الهجوم السلبى على منافسه. وقد تصورت أن أبو الفتوح سينساق للرد ومواصلة الجدل الذى استمر لساعات، لكنه استخدم كلمات قليلة بشأن رجال النظام  السابق وركز وقته على أهدافه وطموحاته كرئيس لمصر فكان ختاما موفقا، لكنه كان يحتاج لمزيد من التركيز وتقديم نظرة أكثر ثقة وتفاؤلا.
وفى النهاية أعتقد أن الفائز الحقيقى فى المناظرة هو عملية التحول الديمقراطى. فعندما يقف المرشحون يتجادلون بهذا الشكل طلبا لدعم  المواطن البسيط ، فإن المعنى الذى يرسخ لدى المشاهد هو: وداعا للرئيس الملهم، الذى يدير شئون الكون من مخدعه، وتشيد بحكمته كل الكائنات. الفائز فى هذه المناظرة هو :مصر!