آراء حرة
عبد الرازق أحمد الشاعر يكتب: شر البلية
بعد خمسين يوما من الهمجية، قررت إسرائيل أن تسحب دباباتها من فوق ركام المدن وأشلاء الموتى في غزة لتعود إلى ثكناتها آمنة. وأمام المودعين، رفع نتانياهو رأسه عاليا لأنه استطاع أن يأخذ بثأر نافتالي وجلعاد وإيال قبل أن تجف دماؤهم فوق تراب حلحول. صحيح أنه اضطر لتوسيع مقبرتهم شيئا ليضع إلى جوار بزاتهم العسكرية الممزقة ستا وستين مجندا آخرين قضوا في غارة الثأر الأخيرة، لكنهم لم يموتوا بلا مقابل على أية حال، فقد تمكن أصحاب النجوم الداوودية اللامعة من الثأر لذويهم وتحقيق نصر مؤزر على زيتون غزة وكرمها.
أما المنكوبون على الجانب الآخر من الحدود، فيستطيعون لعق جراحهم وإخراج بقايا موتاهم من تحت الأنقاض ليترحموا عليهم ثم يعيدوا دفنهم في مقابر لا تختلف كثيرا عن بيوتهم المتهالكة. وبعد انتهاء مراسم العجز، يستطيع المترحمون أن يستعيدوا ذكريات الرعب التي مرت بهم وهم يعبرون الخنادق التي تقاسموا فيها الملح والرصاص.
ويستطيع نتانياهو صاحب أرحم جيش فوق خرائطنا المشوهة أن يفاخر بأنه لم يقتل من المدنيين أكثر من اثنين وخمسين بالمئة، وأنه أرحم بالمسلمين من قادة جيوشهم الذين لا يتورعون عن صب براميل الغضب فوق رؤوسهم دون تمييز ودون رحمة. ويستطيع أن يزايد على من تركوا مرابط خيولهم لسنابك العدو، وانشغلوا بحروب داحسية غبراء.
ويستطيع العرب أن يختلفوا كما يحلو لهم حول أعداد الموتى والجرحى والمفقودين، وأن يتساءلوا عن جدوى المقاومة، وشرعية الخطف. ويستطيع مثقفوا الأمة أن ينظروا بعين محايدة إلى صراع لم يعد يمت لعقيدتهم الدفاعية بصلة، بعد أن أخرج الإعلاميون نكهة الرجولة من أجسادهم المقددة. يستطيع العرب أن يثوروا وأن يفجروا مدنهم وأنابيب النفط في صحراواتهم، وأن يجتمعوا بعد كل انتفاضة وقمع لإحصاء خسائرهم، لكن ليس من حقهم أن ينبشوا قبور ثوابتهم لإخراج ما وحدهم يوما تحت راية عز واحدة.
ومن حق يائير لبيد بعد أسبوع من هدنة هشة أن يساوم على رؤوس المقاومين، وأن يدعوا العرب من النيل إلى الخليج للجلوس على طاولة تآمر واحدة لانتزاع اعتراف جنائزي بشرعية الاحتلال وهمجية المقاومة. لكن وزير المالية الإسرائيلي المعتدل لم يوضح السبيل إلى نزع سلاح المقاومين، ولا دور الجيوش العربية في تنفيذ فكرته اللوذعية. صحيح أن شر البلية ما يضحك، لكننا لا نستطيع اليوم الضحك ولو من قبيل السخرية احتراما لجثث لا زالت دافئة تحت الأنقاض في انتظار نخوة عربية تسمح بمرور الآليات في اتجاه واحد دون انتظار تأشيرة مرور من قادة الحرب فيما وراء الحدود.
في غزة، تخلص اليهود من ذخيرة انتهت صلاحيتها، وجربوا أسلحة فتاكة انضمت مؤخرا لترسانتهم العامرة ، واغتصبوا أرضا لم يغتصبوا مثلها منذ ثمانينات القرن الفائت، ثم انسحبوا من خرائبنا الممتدة وتركوا المقاومين يهزجون بأناشيد النصر ويلوحون بأعلام ممزقة لم تعد ترفرف في أي اتجاه. لكن المقاومين الذين يدركون جيدا أن معادلة الصراع لم تعد متكافئة أبدا، وأن بنادقهم الصدأة لن تصمد في وجه مدرعات الصهاينة ومجنزراتهم طويلا، وأنهم يمثلون وقودا بشريا لحرب قد تكون الأخيرة في سجل الحروب البشرية فوق هذا الكوكب المضطرب، إلا أنهم لا يكترثون لاتجاهات الريح، ويقفون على حدود مبادئهم وأياديهم فوق الزناد لا يضرهم من خالفهم.
غريبة دعوة يائير، لكن الأغرب أنها حتى اللحظة لم تجد قطزا يمزقها ثم يلقيها في وجه صاحبها، ولم تجد بين المفكرين العرب من يستهجنها ويطالب الجامعة العربية بعقد قمة طارئة للرد المناسب عليها. لكنني أخشى ما هو آغرب، وهو أن تعقد قمة يائير فوق أرض عربية ذات مهانة، ليتفق المؤتمرون على محو التاريخ والاكتفاء بتدريس الاقتصاد في جامعاتنا العريقة.
Shaer129@me.com