مصر الكبرى

11:04 مساءً EET

نعوم تشومسكي… الإنسان كما يجب أن يكون

حضرت بالأمس المحاضرة التي ألقاها نعوم تشومسكي في الجامعة الأمريكية.بدأت متابعتي لأعمال تشومسكي السياسية منذ حوالي عشرون عاماً، ثم تعرفت على أعماله في مجال اللغة وفلسفة العقل عندما بدأت العمل في مجال اللغويات.

نعوم تشومسكي شخصية فريدة، متعددة التخصصات وغزير الإنتاج. لا يزال يعمل بدأب حتى وهو في الرابعة والثمانين من عمره.رأيته أمس لأول مرة، كان يرتدي زياً بسيطاً: بنطلون جينز وقميص. لم ألمح في حركته أو نظراته أية بادرة كبر أو خيلاء. تحدث ببساطة ومنهجية سارداً جوانب من علاقات أمريكا الخارجية منذ الحرب العالمية الثانية، موضحاً كيف أن أمريكا لا يمكن أن تدعم قيام ديمقراطية حقيقية في العالم العربي لأن ذلك يعني ببساطة أن تعكس سياسات الدولة إرادة الرأي العام وتوجهه، والرأي العام العربي والمصري معادٍ لأمريكا واسرائيل. لهذا تؤيد أمريكا النظم الديكتاتورية في الشرق الأوسط وتحرص على عدم قيام ديمقراطية معبرة عن إرادة الشعوب في المنطقة.لمن لا يعرف، تشومسكي أمريكي يهودي مُقيم في أمريكا، وبالتالي فهو ينتقد سياسات وطنه، ويفعل ذلك في دول المنطقة العربية: غزة ثم القاهرة. يفعل ذلك ثم يعود إلى وطنه آمناً دون خشية أن يتم القبض عليه في المطار بأمريكا واتهامه بالإساءة لسمعة الدولة الأمريكية وتقليب الرأي العام العالمي على وطنه أو غير ذلك من سخف الجهلاء الذي نعاني منه في مصر. سيعود آمناً لوطنه وسيستمر في انتقاد حكومته وتحذير العالم من السياسات الأمريكية من داخل أمريكا ولن يتم اتهامه بإهانة الرئيس أو العمالة، فالدستور الأمريكي يكفل بحق حرية المواطن، لهذا فمن الطبيعي أن يبزغ عالم أمريكي لا يخاف أن يقول بأمانة وموضوعية ما يراه حقاً ويطوف العالم محاضراً ومهاجماً سياسات وطنه.تشومسكي رجل مسن ومع ذلك تحمل مشقة السفر الطويل ليساند أهل غزه، لم يمنعه رفضه لفكر حماس من مساندة غزة في مأساتها. هذا هو حال الإنسان في الدول التي تحترم حقوق الإنسان، يظهر من هم على شاكلة تشومسكي، أناس يمتد اهتمامهم ليشمل الإنسانية خارج حدود الوطن والجنس والدين، فالتواصل الإنساني لا حدود ولا جنس ولا دين له.لماذا لم يكتف تشومسكي بمساندة أهل غزة بكتاباته؟ لم تكلف عناء السفر؟ لماذا لم يقل: أنا يهودي أمريكي لا أؤمن بالإسلام فكيف أساند مسلمي غزة؟ كيف أساند، أنا الليبرالي اليساري، من يوافقون على خلط الدين بالسياسة؟ لماذا لم يدعهم في مأساتهم الإنسانية وقرر أن يساندهم رغم اختلافه المذهبي والفكري معهم؟دار ذلك في ذهني أمس أثناء المحاضرة وتذكرت تهجير الأقباط من سيناء وتساءلت كم من شيوخنا الأفاضل على استعداد أن يقول قول الحق وأن يساند الإنسان بغض النظر عن دينه واختلافه الفكري معه. كنت استمع لتشومسكي وأتذكر "التقية" السياسية التي يمارسها البعض وفتاوى تحليل التزوير والكذب في الانتخابات وتزيين الجُرم بحجة إقامة دولة إسلامية تطبق شريعة الله! وكأن شريعة الله يُمكن تطبيقها باتباع منهج مكيافيللي: الغاية تبرر الوسيلة.الأخلاق والقيم الإنسانية لا دين لها، يعرفها الإنسان بفطرته السليمة وهذه هي رحمة الله بنا. وعندما تصون الدولة حقوق المواطن وحرياته وتضمن كرامة الإنسان، يصبح من الطبيعي أن يبزغ في المجتمع شخصيات مثل تشومسكي لا تكتفي بالحديث بل تذهب إلى أقصى الأرض مدافعةً عن الإنسان وإن لم تشاركه المذهب والفكر.تُرى هل يأكل تشومسكي الخنزير؟ هل يشرب الخمر؟ هل يُصلي كل يوم؟ هل سيدخل الجنة أم النار؟لا أدري. ولا اسأل نفسي هذه الاسئلة لأن المعايير الدنيوية التي يجب أن نلتزم بها في تقييمنا لأنفسنا هي معايير الأخلاق والقيم والكفاء. ووفقاً لهذه المعايير، تشومسكي شخصية ذات مواقف تستحق كل تقدير واحترام. أما العقيدة والعبادات فهي أمور بين الإنسان وربه.كل التقدير والاحترام لمواقف تشومسكي، وإن كنت لا أدري هل تزامن زيارته لغزة مع تحركات أمير قطر في المنطقة هو مجرد صدفة أم لا؟

التعليقات