مصر الكبرى
عبد الرازق أحمد الشاعر يكتب … وعود حارقة !
في ربيع 1969، اندلعت حرب طاحنة استخدمت فيها الطائرات والمدفعية الثقيلة بين السلفادور وهندوراس. وقد سجلت تلك الحرب رقما قياسيا في موسوعة التاريخ المعاصر، إذ أنها لم تستغرق سوى ثلاثين دقيقة بالتمام والهدم. وتميزت تلك الحرب الخاطفة بطرافة أسبابها، فقد نشبت بسبب مباراة كرة قدم من ثلاثة أشواط في تصفيات كأس العالم، ودعت على إثرها هندوراس حلم الصعود على يد غريمتها السلفادور.
لم يتحمل قادة هندوراس اللطفاء جدا صدمة الخروج المهين من التصفيات، فقرروا أن يدقوا مع صفارة النهاية طبول حرب كلامية، انتهت بتقدم الجند، وسحب الزناد، وإطلاق القذائف. لكن حرب الديكة تلك لم تضطرم كما كان مقدرا لها لأنها لم تجد من يصفق لها على أي من الجانبين. كانت مدرجات البلدين المرهقين اقتصاديا خاوية من المشجعين لأن أحدا من شعبي البلدين لم يكن مستعدا لتغريم أطفاله ثمن حرب بلهاء شنتها عقول خاوية ذات تعصب. لكننا في مصر مستعدون دوما لأي اقتتال تحت أية راية، لأننا، ببساطة، شعب بلا أزمات. فاقتصادنا – ولله الحمد – متدهور كما يجب، ومواطنونا فقراء كما ينبغي. لا بأس إن شح الطحين أو ندر الغاز أو توقفت سياراتنا التي لا تجد عادما تنفس به عما تكوم فوق رئاتها الصدئة من غبار أمام محطات الوقود طالما أن في وقتنا متسع للشجار. وبما أن تفريج الكربات مقدم على إدخال البهجة، فليجد الفقراء في بلادنا ما يسد حاجتهم إل التدمير والهدم. وبدلا من الاعتصام أياما أمام قاعات المحاكم، وقصور الرئاسة، ووزارة الشئون الاجتماعية في حضور حشد من كاميرات الهواة، يمكن لمراهقينا أن يحظوا بتغطيات إعلامية أشمل ومقابلات صحفية أوسع أمام كل استاد. ولأننا شعب عاشق للحرية والاستقلال، لن ننتظر إشارة من قائد ملهم أو زعيم فذ، فنحن شعب بلا قيادة، وثوار بلا رايات. ستجمعتنا حتما هتافاتنا التي تأخذنا إلى البعيد لنقاتل أي فريق حبا في وطن لم يعد بحاجة لأحد بعد أن زهد فيه كل أحد. لا مطالب لنا الآن إلا السقوط – سقوط أي أحد وكل أحد. لهذا سنتجه بمشاعلنا نحو قصر الرئيس ومبنى الحكومة والبرلمان والمحاكم وماسبيرو والسكك الحديدية ومحطات المترو حاملين راية نيرون لنحرق الفساد ونبني مجتمعا فاضلا. يوما ما، تجاوزت أهواء نيرون بلاطه، فأطلق ثلة من المفسدين المتاجرين بدماء الأحلام في شوارع روما وهم يحملون شعلة الأولمبياد ليحرقوا البلاد عن آخرها لأن شوارعها الملتوية ومبانيها المتصدعة لم ترتق أبدا إلى ذوقه الرفيع. ونظر الرجل إلى دخان النصر يتصاعد من حظائر الفلاحين وهو يرقص رقصة الديكة ويغنى أغنية النصر. لكن الفلاحين الفارين من حظائرهم لم يروا من وعوده إلا أكواما من رماد. أحرق نيرون روما يوما ليعيد بناءها، كما يريد السياسيون أن يفعلوا ببلادنا اليوم. لكن اقتصاد المناضل الشريف ترنح ثم تهاوى، ولم يستطع سابق عصره أن يبني أكواخا من طين تواري سوءات الفارين إلى القبور بجلودهم عارية. ثم فشل الزعيم الملهم في دفع رواتب الجند الذين تحملوا لفح النيران لكنهم لم يتحملوا عض أرغفتهم المستوردة، فقاموا بالانقلاب عليه، وأعلنوه عدوا للبلاد. سقط نيرون بيده لا بيد عمرو ذات يأس، لكن دماءه اللزجة لم تمح خطيئة الاتجار بالأحلام في زمن الفاقه والجوع والحاجة. للسياسيين حق دستوري، لا غرو، في نفخ أشداقهم والتبجح أمام الكاميرات بمستقبل رغيد ومدن لا تفرج بين فخذيها للغرباء والطامعين. من حقهم أن يرسموا بأقلامهم المذهبة طريقا مرصعا بالآمال في زمن القحط. لكن ليس من حق أحد، سياسيا كان أو عسكريا، أن يحرق روما مقابل رسوم هندسية كروكية. ألا فليخرج أساطين الكلمات من حللهم الخطابية ليرتدوا هموم المواطن الذي لم يعد يؤمن بالحروب الكروية أو النداءات الحزبية والطائفية، لأنه يعرف أن لا متسع لعظامه الواهنة بين القبور بعد أن تاجر بها الأغنياء وتكدست فيها اللحوم الحية من كافة بقاع المهانة.