مصر الكبرى
عبد الرازق أحمد الشاعر يكتب … أكاذيب ملونة
في مطلع صيف 2002، نشر روبرت سيجل رئيس تحرير جريدة ذي أونيون الساخرة خبرا مفبركا عن تهديد أعضاء الكونجرس بمغادرة واشنطن إن لم تقم الحكومة الأمريكية بإنشاء مبنى جديد للبرلمان بسقف متحرك. ولأن أهل أمريكا أدرى بشعابها، لم يكترث أحد للخبر ولم يعره قارئ التفاتة. إلا أن جريدة بكين نيوز الصينية تلقفت الخبر ونشرته على صفحتها الأولى دون أن تذكر مصدره، فكانت الفضيحة.
تناول الصينيون الخبر على أنه حقيقة وبدأت ألسنتهم الحداد تدور في فلكها الضيق لتضغط وجناتهم المكتنزة على أعينهم الصغيرة لتغلق أبوابها من الضحك سخرية من شعب لم يجد صفوته الذين بلغت رفاهيتهم الزبى ما يشغل رؤوسهم التافهة غير مبنى بسقف متحرك. يومها تنبأ عرافو الصين ذوو الدقون المدببة واللحى الطويلة بقرب تهافت العملاق الأمريكي وسقوطه على أيدي صفوته. وتتبعت وزارة الإعلام الصينية الخبر حتى عرفت مصدره، وأجبرت رئيس تحرير الجريدة على الاعتذار لشعب يثق في مداد محرريه ولا يمتلك روح الدعابة اللاذعة التي تفيض بها خزائن الأمريكيين. هذه المرة، لم ينس رئيس تحرير بكين نيوز ذكر مصدر الخبر وتعليق حجر المسئولية في رقبة سيجل الذي ضحك حتى استلقى على ظهره حين علم بما فعله الصينيون بخبره وما فعله بهم. قال الرجل الساخر وهو لا يكاد يملك حروفه: "مدهش! حتى الصحفيون هناك يصدقون صحفهم."وبعد أن أفرغ رئيس تحرير ذي أونيون كأس الضحكات من جوفه، عاد إلى مكتبه لينشر خبرا مفبركا آخر، فكتب على صدر صفحته: "الرئيس بوش يصرح: وأخيرا انتهي كابوس الرخاء والسلام من قاموسنا المعاصر." وسرى التصريح بين الأمريكان سريان النار في الهشيم وتناوبت نقله الألسنة دون أن يصدقه أحد. أما جريدة بكين نيوز، فلم تشر إلى الخبر من قريب أو بعيد لأن الصينيين لا يلدغون من جحور الصحفيين مرتين.الغريب في الأمر أن رئيس تحرير ذي أونيون ظل محتفظا بمنصبه حتى بعد نشر الخبر الساخر من ساكن البيت الأبيض، ولم يصله تهديد بإيقاف الجريدة أو تحويله إلى التحقيق أمام المجلس الأعلى للصحافة هناك (ربما لم يكن لديهم مجلس موقر كمجلسنا يومها). الغريب أن الرجل ظل يصول ويجول في مكتبه الفاره ليؤلف المزيد من الأكاذيب التي لا يصدقها أحدا ولا يلتفت إليها عابر جريدة.والأشد غرابة، أن رئيس تحرير بكين نيوز ظل في مكتبه، وتمكن من الاحتفاظ بكرسيه هناك حتى جاوز حذاؤه سقف المعاش فتقاعد مختارا موقرا. صحيح أنه لم ينشر المزيد من الأكاذيب بعدها، لكن ذلك لم يكن رضوخا لإملاءات عليا – وهي جد قاهرة – لكنه فعلها عن طيب قناعة لأنه يحترم شعبا لا يجد متسعا من الوقت للضحك. في أمريكا، يضحك الرئيس من الأخبار المفبركة كما شعبه ولا يسخط على ناشريها أو يهددهم بالطرد من بلاط صاحبة الجلالة أو يوقف جرائدهم الصفراء وإن تجاوزت أعتاب حجرة نومه الفارهة. ويضحك الأمريكيون ملء بطونهم بعد كل وجبة عامرة من الأكاذيب المنمقة التي تسخر من الجالسين فوق صدورهم هناك. وفي الصين، يثق المواطنون بحروفهم، ويصدقون مداد كتابهم لا لأنهم مغفلون، ولكن لأنهم اعتادوا الصدق في معاملاتهم والتزموا الدقة في نقل أخبارهم. أما في بلادنا التي تجلس بين مقعدي الشرق الصادق جدا والغرب الكاذب للغاية، فلا تعرف أي الأخبار تصدق وأيها يستحق من الرؤوس الطيبة الريبة والظن. في بلادنا لم يعد رؤساء التحرير في مأمن من الإقالة إن نشروا خبرا مفبركا ذات ثقة، فهنا لا يكفي الاعتذار حتى وإن ذكر الناشرون مصدر الخبر. فهنا فقط، لدينا أكاذيب ملونة، يسمح بتداول بعضها، ويجرم تناول بعضها، وويل لرئيس تحرير لا يفرق بين لون ولون.