كتاب 11
وداعا فوزية سلامة!
فقد الوسط الثقافي والإعلامي وجها من وجوهه المميزة والمتألقة، بوفاة السيدة فوزية سلامة رحمها الله. انتقلت فوزية سلامة إلى رحمة الله بعد صراع شجاع مع مرض خبيث أصابها منذ فترة، وكان سرطان البنكرياس أقوى وانتصر عليها.
عرفت فوزية سلامة بموهبة صحافية مميزة، كانت تعكس شخصيتها السلسة والمرحة والراقية في آن واحد. امتهنت مهنة المتاعب منذ زمن طويل، وعرفت الكتابة المتخصصة وكتابة العمود الصحافي ورئاسة تحرير المطبوعة، وأبلت بلاء حسنا في كل ما أقدمت عليه، حتى إنها أقدمت أيضا على إصدار الكتاب، وكان لها الحضور الجماهيري والقبول العريض المشهود.
عرفت بتجاوبها مع القراء ومع ما يطرح من مشاكل خاصة تأتي لها، فكانت كما هو الحال مع بني وطنها المعروفين في المجال نفسه، أمثال عبد الوهاب مطاوع وحسن شاه. وكانت لردود وتعليقات ونصائح فوزية سلامة الأثر الجميل لحل ما يطرح عليها من مشاكل وقضايا ومسائل، وكل ذلك جاء انعكاسا لروحها السامية وأخلاقها العالية. وهذه الصفات الخاصة والنادرة والمميزة انعكست على كتاباتها بمختلف أشكالها الصحافية والروائية والتي خاضتها بنجاح، وكان لها أكثر من إصدار لافت ومميز، حتى على صعيد علاقاتها الاجتماعية، وكان دوما حضورها مثل الطيف الرقيق والنسمة الصافية.
تعرفت على الراحلة منذ فترة طويلة، وجمعتني معها أكثر من مناسبة، وكان الحديث معها دائما ممتعا ومفيدا وراقيا. وكانت عربية ومصرية حتى النخاع، لكنها عاشت فترة طويلة جدا في إنجلترا، فأكسبتها هذه التجربة الثرية بعدا ثقافيا وحضاريا وإنسانيا جعلها تتمعن في التجربة البشرية بأبعاد غير تقليدية وحس غير نمطي. ثم اتسع أفق تجربتها الإعلامية باختيارها كإحدى مقدمات برنامج «كلام نواعم»، البرنامج الذي حطم الأرقام القياسية في المشاهدة، سواء أكان ذلك بسبب كثافة أعداد المتابعين أو بسبب طول عمر البرنامج بالسنوات التي لا يزال يعرض فيها في صناعة لا ترحم ولا يدوم فيها البرنامج «الناجح» جدا سوى مواسم معدودة للغاية. وكانت هي اختيارا «غريبا» و«غير تقليدي»، لكنه اختيار موفق جدا، فكانت هي الأخت الكبرى والأم والمرشدة والخبيرة ورمانة الميزان في كل الحوارات، فهي دائما كانت تعطي الجوانب «الأخرى» لحوارات ساخنة وباردة وشيقة ومملة.
وعرفت فوزية سلامة نوعا جديدا من النجاح، نوعا عميقا من التواصل الهائل والعريض مع طبقات مختلفة في أرجاء الوطن العربي والعالم من مختلف الأجيال والطبقات، مما جعلها نجمة تلفزيونية استثنائية في قرابة السبعين من عمرها، وهي مسألة «تخالف» تماما منطق النجومية التلفزيونية العصرية. ولكن كان هذا هو تحديدا خاصية وسر فوزية سلامة نفسها.
إنها إنسانة شفافة كالكريستال، وراقية كالنسمة العليلة، وصافية كالماء. لم تكن بعمرها لديها أعداء، لأنها لم تعرف معنى لكلمة الكراهية. كانت تطبق حرفيا فهم ومعنى «إحسان الظن» بالغير، فلم تكن تعيب ولا تنم ولا تتحدث بالسوء عن أحد أبدا. كل من عرفها سيفتقدها، وكل من سمع عنها سيتمنى لو أنه تعرف عليها.
فوزية سلامة كانت تنتمي إلى عالم خلاب ومثالي، عالم راق. أناس يأتون إلى عالمنا «فيرفعون» من يتعرفون عليهم، ويشعر من يفتقدهم بوحشة مؤلمة بعد رحيلهم. إنهم هدايا القدر لدنيانا لعلنا نرى ما هو جميل فنقدره.
رحمك الله يا فوزية سلامة، تركت فراغا جميلا لن يملأه غيرك. ندعو لك بالرحمة والمغفرة، وأن يكون مثواك الجنة، وأن يلهم أهلك ومحبيك الصبر والسلوان.