مصر الكبرى
لجنة الدستور ليست دستورية
عندما بدأت مظاهرات يوم الغضب في ميدان التحرير في 25 يناير من العام الماضي, لم تكن تطالب بإقامة دولة إسلامية, ولكنها كانت تعبر عن احتجاج الجماهير على ارتفاع الأسعار وانتشار الفقر والبطالة, كما طالبت بحل مجلس الشعب بسبب تزوير الإنتخابات وكذلك تعديل الدستور حتى لا يسمح بإعادة انتخاب الرئيس مرة أخرى. وعندما أعلن الرئيس مبارك بعد ذلك عدم نيته للترشح لفترة جديدة ووافق على إجراء التعديلات الدستورية, طالب المتظاهرون برحيله فورا. وأخيرا في 11 فبراير أعلن مبارك تنحيه عن السلطة وسلم المجلس العسكري اختصاصات الرئيس خلال فترة انتقالية لحين إنتخاب رئيس جديد.
    وقرر المجلس العسكري حل برلمان الحزب الوطني وتشكيل لجنة لتعديل الدستور برئاسة المستشار طارق البشري, وأجرى استفتاء على التعديلات في 19 مارس 2011. ومع هذا فقد قام المجلس العسكري بعد ثلاثة أسابيع فقط من الاستفتاء بإلغاء دستور سنة 71 نفسه, مما يعني إسقاط التعديلات بالتبعية, وأصدر إعلانا دستوريا يتم العمل به إلى حين وضع دستور جديد للبلاد, لم يتم استفتاء الشعب عليه. عندئذ صارت التعديلات الدستورية كأنها لم تكن, حيث أن الدستور الذي جرى تعديله لم يعد له وجود. فالدستور هو الذي ينص على طريقة انتخاب البرلمان ورئيس الجمهورية, ويحدد اختصاص كل منهما وعلاقة سلطات الدولة بعضها ببعض, بينما ليس من صلاحية الإعلان المؤقت – الذي لم يتم الاستفتاء عليه – تنظيم سلطات الدولة بعد هذه الفترة. وعلى ذلك يكون الإصرار على التمسك بتعديل دستور انتهت صلاحياته, غير ذي موضوع.
    وإذا تبعناالقواعد القانونية السائدة في جميع البلدان, كان من الضروري وضع الدستور قبل إجراء الإنتخابات, حيث أن الدستور هو الذي يحدد سلطات البرلمان واختصاصاته. وهذا هو ما حدث بالنسبة إلى دستور الولايات المتحدة الأمريكية, الذي يعتبر أقدم دساتير العالم صدر في 1787, وشكل الأركان الثلاثة للسلطة: الكونجرس الذي يقوم بتشريع القوانين والإدارة وعلى رأسها الرئيس المنتخب والمحكمة العليا التي تتأكد من صحة تطبيق القوانين. وهذا هو أيضا ما حدث بالنسبة لدستور الثورة الفرنسية الذي صدر في عام 1791, وهو كذلك ما حدث عند وضع أول دستور مصري بعد ثورة 19.  فبعد إعلان بريطانيا إلغاء الحماية عن مصر قامت لجنة بوضع دستور في سنة 1923 للدولة المستقلة على أساس نظام الملكية البرلماية, تكونت من المفكرين ورجال القانون ورجال الدين والأعيان ورجال الأعمال. منح الدستور غالبية السلطات التنفيذية للحكومة, بينما يتولى البرلمان سن القوانين ومراقبة أعمال السلطة التنفيذية.
    بعد إنتهاء لجنة الدستور من عملها, أصدر الملك فؤاد أمرا ملكيا بالدستور الذي تكون من 170 مادة وقرر أن مصر دولة ذات سيادة وأن الأمة هي مصدر السلطات, كما ساوى الدستور بين المصريين أمام القانون وكفل حرية الاعتقاد وحرية الرأي حرية الصحافة. ونص الدستور على تكوين برلمان من مجلسين: النواب بالإنتخاب والشيوخ ينتخب ثلاثة أخماسه ويعين الباقون. ثم صدر قانون الإنتخاب الذي جعل حق الإنتخاب للمصري البالغ 21 سنة. وبعد صدور الدستور أشرف يحيى إبراهيم – رئيس الوزراء – على إجراء إنتخابات برلمانية في يناير 1924, وتمكن حزب الوفد فيها من الحصول على الغالبية العظمى من المقاعد, فتقدم يحيى إبراهيم بالاستقالة ليشكل سعد باشا في اليوم التالي الوزارة الشعبية الأولى.
    ولما كانت المادة 60 من الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري تنص على أن يتولى البرلمان بمجلسية اختيار اللجة التأسيسية لوضع الدستور الجديد, لجأ البرلمان الذي يسيطر عليه الإخوان والسلفيين إلى اختيار لجنة يسيطر الإسلاميون عليها, سواء بخمسين عضوا من برلمانهم أو بحوالي 25 عضوا اختاروهم من الخارج. وهذا يعني أن الدستور الجديد سوف يقيم دولة إسلامية على هوى دعاة الاسلام السياسي, ولن يكون دستورا لثورة شعب مصر بكل كياناته وطوائفه.  
    إلا أن اختيار البرلمان للجنة الدستور يخالف القواعد الدستورية, حيث أن المادة 60 من الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري التي خولت البرلمان حق اختيار أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور, نفسها ليست دستورية. ذلك أن المجلس العسكري لا يملك سوى صلاحيات الرئيس السابق, والتي لا تخوله حق تقرير طريقة إختيار لجنة الدستور.فالمجلس العسكري – بصفته ممثلا لرئيس الجمهورية – لا يملك صلاحية اتخاذ هذا القرار. وفي هذه الحالة يجب تدخل المحكمة الدستورية العليا لرفض هذا الإغتصاب الصريح لثورة 25 يناير, والسماح لجميع طوائف شعب مصر بالمشاركة في وضع الدستور الجديد.