كتاب 11
تونس من الثورة إلى الدولة!
أصدر القضاء التونسي خلال هذا الأسبوع حكما نوعيا شكَّل بدوره، حقيقةً، منعطفا مهما سيكون من جهة في صالح الدولة ومؤسساتها، ومن جهة أخرى مساهمة نوعية في ترتيب المناخ العام لخوض الانتخابات القادمة في ظروف أقل التباسا.
هذا الحكم الذي آثرنا تقديم الحديث عن أهميته ونوعيته على كشف مضمونه أولا، ينص على حلِّ الرابطة الوطنية لحماية الثورة وكل فروعها ومصادرة ممتلكاتها.
وللتذكير، فإن هذه الرابطات تشكَّلت مباشرة بعد اندلاع الثورة التونسية في 14 يناير (كانون الثاني) 2011، ثم تمكَّنت بسرعة مذهلة من الانتشار في كل المحافظات التونسية. وأصبحت بنفس السرعة أيضا تتدخل في الشأن السياسي العام وتنتصر لطرف وتعادي سلوكا وخطابا لأطراف وشخصيات أخرى.
وفي الحقيقة، وجدت هذه الرابطات من حكومة الترويكا السابقة الدعم اللازم، وتحديدا من حركة النهضة وحزب المؤتمر، حيث ضربا بعرض الحائط كل انتقادات المجتمع السياسي والمدني الموجهة ضد رابطات حماية الثورة. وليست مبالغة إذا قلنا، إن مساندة الترويكا العلنية لرابطات حماية الثورة قد مثَّلت سببا رئيسا لفشل الترويكا وللضغط عليها للخروج من الحكومة والقبول بحكومة كفاءات وطنية، وذلك من منطلق أن هذه الرابطات لم تكن معادية فقط للأحزاب الموصوفة باليسارية أو العلمانية، بل إنها كانت شديدة العداء لأهم قوة سياسية في البلاد، وهو الاتحاد العام التونسي للشغل. وفي هذا السياق نُذكِّر بحادثة الاعتداء على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل التي أدت إلى تهديد الاتحاد ساعتها بإعلان إضراب عام تم التراجع عنه في اللحظة الأخيرة.
أيضا من الاتهامات الأخرى المورطة فيها رابطات حماية الثورة نشير إلى قضية قتل الشهيد القيادي في حركة نداء تونس لطفي نقض سنة 2012. وفي ذلك التاريخ، كانت حركة نداء تونس في أسابيعها الأولى، ووجدت معارضة شرسة من طرف رابطات حماية الثورة التي اعتبرتها ولادة جديدة للدستوريين والتجمعيين. وبحكم تطابق موقف حركة النهضة مع ردود فعل هذه الربطات في قضايا وأحداث عدة، فإن الغالب على النخب التونسية الاعتقاد أنها تخدم أجندات حركة النهضة، خصوصا أنها – أي هذه الرابطات – كانت حاضرة بقوة في مسيرات كثيرة حاسمة ودقيقة الأسباب والأهداف نظَّمتها حركة النهضة.
ولقد لاقت هذه الرابطات معارضة راديكالية وقوية من أحزاب وجمعيات تونسية عدة رافضة لمجرد وجودها، وذلك من منطلق أن تاريخ الدولة في تونس طويل، وأن المنطق الجمهوري والنظام السياسي الديمقراطي يقولان إن مؤسسات الدولة هي المؤهلة فقط لحماية الثورة وحقوق المواطنة، إضافة إلى أن الاستئثار بما يسميه ماكس فيبر استخدام العنف المشروع، هو من امتيازات الدولة لا الجمعيات والرابطات.
كما أعاق وجود هذه الرابطات أداء الدولة لوظائفها ومسَّ من هيبتها بالمعنى «الأمني»، حيث كانت هذه الرابطات في أحداث معينة بمثابة دولة موازية، على شاكلة الاقتصاد الموازي الذي تعاني من مشكلاته الحكومة التونسية منذ سنوات.
طبعا، بقدر ما وجد الحكم القضائي المتعلق بحلِّ رابطات حماية الثورة في تونس التِّرحاب والثناء والمواقف الإيجابية من النخب السياسية والمدنية والحقوقية، فإنه لاقى أيضا انتقادات وتشكيكا في نزاهته القضائية، علاوة على شعور البعض بنوع من الخيبة والإحباط. من ذلك ما صرح به مؤسس حزب وفاء السيّد عبد الرؤوف العيادي من أن هذا الحكم يندرج ضمن تنفيذ لبرنامج سياسي بموجب خريطة الطريق واستكمال لمهزلة.
ولمَّا صادف صدور هذا الحكم نفس الشهر الذي شهد تصويت المجلس الوطني التأسيسي ضد قانون العزل السياسي، إضافة إلى إطلاق سراح الكثير من رموز النظام السابق، وأيضا تبرئة القضاء التونسي للقادة الأمنيين المتهمين بقتل «شهداء الثورة التونسية»، فإن مجرد تتالي هذه الأحكام والأحداث وما يحيل إليه تراكمها من معانٍ ومضامين ورسائل، قد جعل المتمسكين بمنطق الثورة وبضرورة مواصلة النهج الثوري، يرون أن الثورة التونسية قد أصيبت في مقتل وتمت خيانة أهدافها وأحلامها. بل إنهم يذهبون إلى إعلان إجهاض الثورة وعودة النظام القديم، وكأنه لا شيء حصل في تونس ولم تقم فيها ثورة!
في الحقيقة، يبدو لنا أن القراءة الموضوعية تقول، إن الدولة في تونس هي التي عادت وليس النظام القديم الذي ذهب إلى غير رجعة. ومن المهم بالنسبة إلى معارضي هذه الأحكام أو الرافضين لإسقاط قانون العزل السياسي – وهذا من حقهم – ألا ينسوا تحت تأثير الانتماء السياسي وغيره من المؤثرات، أن النظام القديم هو قبل كل شيء ثقافة سياسية وطريقة في الحكم، وهذا ما تحصنت ضده تونس جيدا من خلال مضامين الدستور الجديد والحرية التي اكتسبتها.
إن تاريخ الثورات التحرّرية لا يعود إلى الخلف.