أفضل المقالات في الصحف العربية
انقلابات بنكهة «الربيع»
لا يمكن تفادي السؤال عن إن كان ما يقوم به خليفة حفتر في ليبيا منذ أكثر من أسبوع هو محاولة انقلاب أخرى في بلد عربي شهد ثورة من ثورات الربيع العربي، فحفتر لواء سابق في جيش معمر القذافي، سبق أن تعرض مع جنوده لهزيمة قاسية في تشاد، وعلى خلفية ذلك تنكّر له القذافي وتخلّى عنه، فاضطر للجوء إلى الولايات المتحدة. كأن ظروف الفوضى التي رانت على ليبيا بعد الثورة، وإسقاط نظام العقيد، مثّلتا فرصة أمام هذا اللواء المتقاعد لاستعادة شرفه وصدقيته العسكرية، بل كأنه يستغل ظروف الفوضى ليجعل من نفسه المنقذ لنظام عسكري سقط بسرعة لافتة. هل الأمر كما يبدو عليه، أم إن حفتر يحاول إنقاذ بلده من مخالب فوضى لا تهدد استقراره وأمنه، بل تهدد وحدته ودولته من الأساس؟ في لُجّة الصراع، وزحمة الأحداث في ليبيا، ليس هناك مجال لمثل هذه الأسئلة.
لماذا الحديث عن انقلاب آخر في ليبيا، وفي إطار ثورات شعبية؟ هناك فرق بين انقلاب كلاسيكي يحدث في السر، وتنفرد فيه مجموعة من الضباط بقرار الانقلاب على السُلطة، ويتفرد الجيش بعد ذلك بالإمساك بزمام هذه السُلطة. هذا ما كان يحدث في القرن الماضي. في إطار الربيع ظهر نوع آخر من الانقلابات، فهو ليس سرياً، ولا ينفرد فيه الضباط بقرار الانقلاب، ولا يستفرد الجيش بعده بالسُلطة، وهو ما يمكن أن نسميه «الانقلاب العسكري بغطاء ومشاركة مدنية». ما يحصل الآن في بلدان الربيع العربي – ما عدا تونس – يعكس ذلك، وبالتالي فسياق الأحداث هو الذي يفرض الحديث عن الانقلاب. في نهاية المطاف ثورات الربيع العربي هي مواجهة بين شعب أعزل من دون قيادة، وبين نظام سياسي بقيادة واضحة، وقوة عسكرية وازنة. وفي هذا الإطار كانت ولا تزال المواجهة المباشرة هي بين المؤسسة العسكرية وقوى الإسلام السياسي، بخاصة في مصر وتونس واليمن وليبيا. كانت مصر أول من شهد انقلاباً أعاد المؤسسة العسكرية إلى واجهة الحكم بعد ثورة شعبية. هناك محاولة انقلاب مستترة ومستمرة يقف خلفها علي عبدالله صالح في اليمن. ما يحدث في ليبيا الآن يقع ضمن السياق نفسه. في الجزائر التي لم تشهد ثورة حصل انقلاب مستتر آخر، لكنه وقائي فرض الجيش من خلاله رئيساً لا يستطيع بسبب سِنّه وحاله الصحية إلقاء خطاب ترشحه. أما في سورية، فلم ينتظر النظام ما يلجئه إلى الانقلاب. ذهب إلى الحل الأمني والقتل منذ اليوم الأول للثورة. تعيد هذه الأمثلة – ومعها السياق الذي تتحرك فيه – المؤسسة العسكرية إلى الواجهة، وتعيد معها فرضية أنه من دون حكم هذه المؤسسة يكون البلد مهدداً بالانزلاق إلى تفشي الفوضى والقتل (أو الفتنة كما تقول الأدبيات الإسلامية). ربما يتساءل البعض ما إذا كان في الأمر مفارقة: ثورات انفجرت للتخلص من حكم العسكر، يبدو كأنها قنطرة يعود من خلالها هذا الحكم؟ يبدو للبعض أن الأمر كذلك، لكنه في الواقع تصور يلغي طبيعة الثورات الشعبية وتعقيداتها، وأن الأحداث لا تزال تعتمل في مرحلة انتقالية لا أحد يعرف حدودها بعد، كما يلغي فرضية أن موقف الشعوب لا يزال في حال انتقالية أيضاً، ولم يستقر على حال.
قبل الربيع لم تجرب المجتمعات العربية حركات الإسلام السياسي وتنظيماته إلا في أمرين: دورها المعارض لأنظمة الحكم، وهيمنتها الأيديولوجية على الشارع، وفي كلا الأمرين حققت نجاحات كثيرة. وكان من الطبيعي أن انفجار ثورات الربيع قدّم لهذه القوى فرصتها التاريخية الأولى في الحكم، وهي فرصة انتظرتها لعقود من الزمن، لكنها فشلت في هذه التجربة الوليدة فشلاً ذريعاً، حتى الآن على الأقل. من أسباب الفشل أنه لم يكن لحركات الإسلام السياسي دور مهم في إطلاق شرارة الثورات، وبالتالي لم تكن على صلة بنبض الجماهير التي كانت تغذي الثورات، وهذا طبيعي لأنها حركات لم يعرف عنها أنها ثورية، لا في منطلقاتها ولا في أهدافها. هناك سبب يعود إلى انعدام خبرة الحُكم ومهاراته لدى رموز وقيادات هذه الحركات، وهذه حقيقة، إلا أنها حقيقة لا تنفرد بها حركات الإسلام السياسي، وذلك عائد إلى سمة الإقصاء التي تميز أنظمة الحكم، وهو إقصاء في كل الأحوال يشمل الجميع ما عدا من يمسك بزمام السُلطة. هناك سبب آخر وأهم، وإن كان يتكامل مع السببين السابقين، وهو أن حركات الإسلام السياسي في الأساس حركات دعوية تغلب على نظرتها للعمل السياسي أنه فريضة دعوة، وواجب هداية دينية، وليس عملية سياسية تتسع لتعددية المجتمع، ومعنية قبل أي شيء آخر بحقوق الناس في الأمن والعدل والمساواة والحرية، وبناء المؤسسات، والالتزام بحكم القانون. هنا تبدو هذه الحركات كأنها في أدائها بعد الربيع تتجه – وإن لأسباب مختلفة – إلى تكرار تجربة الأنظمة التي عارضتها قبل الربيع وبعده.
على الجانب الآخر، عرفت المجتمعات العربية أنظمة العسكر لأكثر من ستة عقود، وهي أنظمة أثبتت فشلها أيضاً على مختلف المستويات، ما عدا مستوى واحد تعتبره من إنجازاتها. وهو ما تسميه الأمن والاستقرار، وتبيّن الآن أنه لم يكن هناك أمن ولا استقرار، وإنما حال مضلّلة من الهدوء والسكينة فرضت بقوة الأمن والقمع والخوف من الملاحقة أمنياً أو معيشياً، أو بهما معاً، ولعل حكم البعث في كل من العراق وسورية، وحكم العقيد في ليبيا ما يقدم النموذج المثالي على ذلك. ومهما قيل في ثورات الربيع العربي، فإنها نتيجة طبيعية لتلك الحال المضللة، وتعبّر بأحداثها وتحولاتها عن هذه الحال وما آلت إليه. في هذا الصدد يحق للإسلاميين الاحتجاج بأن المدى الزمني لتجربتهم في الحكم – في مصر وتونس مثلاً – لم يتجاوز العام، إلى جانب أن هذه التجربة جاءت بعد ثورة شعبية، ومن ثم فإن الحكم على تجربتهم نهائياً بالفشل فيه استعجال وتعسف، في حين أن فشل حكم العسكر ثابت بعد أن أخذوا فرصتهم لأكثر من ستة عقود، أو جيلين من الزمن.
من حيث المبدأ هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً أنه لا يحق لك أن تطلب من الناس الانتظار ستة عقود أخرى. كان ينبغي للإسلاميين تعلم الدرس الأول من تجربة العسكر، والمثل يقول: «من يلدغه الثعبان يخاف من الحبل».
وهنا يتبدى المأزق السياسي من حيث إن الخيارات المتاحة تبدو محصورة بين أخطار العودة لحكم العسكر بحثاً عن «الهدوء والسكينة»، أملاً بأن تكون الأمور مختلفة عمّا كانت عليه في ماضي هذا الحكم، وبين المغامرة بقبول حكم «إسلاميين» لم تترك تجربتهم الأولى أملاً باستئناف جديد ومختلف. هناك تفاصيل كثيرة تحيط بكل واحد من هذين الخيارين. لكن، ومن دون الدخول في هذه التفاصيل، فإن الوضع في بلدان الربيع العربي ليس بالضرورة كما يبدو عليه الآن، فالثورات بطبيعتها لا تتبع خطاً مستقيماً يبدأ من المتغير «أ» – الاستبداد مثلاً – ويقود مباشرة إلى المعطى «ب» – الديموقراطية – ما بين حرف الألف وحرف الباء في مثل هذه المعادلة حروف، أو معطيات ومنعرجات ومتغيرات كثيرة، وسيكون من الغباء أن يعتقد رجال المؤسسة العسكرية أن الثورات فشلت، وأن هذا الفشل برهن للجميع أنهم صمام الأمان، لأنهم بذلك يتجاهلون حقيقة أنهم في مرحلة اختبار، والوضع الحالي يقف عند أحد منعرجات أو منعطفات حركة التغيير التي أطلقتها الثورات، ينتظر ما سيحدث بعد ذلك.