كتاب 11
فرص أضاعتها الصحافة المصرية
تغطية الصحافة المصرية، خاصة برامج الحوار التلفزيونية منها، للانتخابات الرئاسية، أضاعت فرصة تاريخية ثمينة لفحص الظروف الآنية لمصر، من الزوايا الاجتماعية والاقتصادية وبرامج الإصلاح، وأيضا بعدم إشراك أكبر عدد ممكن من المفكرين المصريين لمناقشة إلى أين تتجه مصر الآن.
مسألة اكتساح المرشح الأكثر شعبية، المشير عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع السابق، بنسبة أعتقد أنها ستتجاوز 75 في المائة من الأصوات (المصريون في الخارج مثلا تراوحت النسبة ما بين 90 و95 في المائة للسيسي وما بين ثلاثة إلى خمسة في المائة من الأصوات الصحيحة لمنافسه حمدين صباحي) وأنه الرئيس السادس لمصر (الثامن إذا حسبنا الرئيسين المؤقتين وفقا للدستور المصري: رئيس البرلمان وقتها صوفي أبو طالب عام1981 حتى انتخاب حسني مبارك؛ والمستشار عدلي منصور حاليا) والرئيس الثاني في عصر الجمهورية الثانية – أو الثالث دستوريا لأن المستشار منصور رئيس مؤقت لكنه قانوني من الناحية الدستورية (الجمهورية الأولى 1953 -2012 لا تزال شرعيتها الدستورية محل خلاف بين فقهاء القانون الدستوري والمؤرخين).
فيضان الأصوات الجارف الذي سيدخل السيسي قصر الرئاسة أمر مفروغ منه، ليس لأن مصر تقع في غرام فرعون جديد (كما يدعي جيل جديد من المراسلين الضحلين يرى كل منهم أنه لورنس العرب المعاصر) أو اعترافا بجميل انحياز الجيش لغالبية الأمة ضد أقلية أرادت تغيير الشخصية والثقافة المصريتين بولاء خارج الحدود، وإنما لأنه شخصية توافقية تتفق حولها كل تيارات الأغلبية.
ولماذا هو شخصية توافقية سواء للنخبة المثقفة والنشطاء، أو متوسطي التعليم، أو الأغلبية التي تختار بغريزة حب الحياة الحفاظ على لقمة العيش؟
البديهية التي يتجاهلها مراسلو صناعة الرأي العام العالمي: SURVIVAL & SECURITY غريزتي الإنسان لحب البقاء والإحساس بالأمان.
مصر تمر بأحرج فترة واجهتها لأكثر من 45 قرنا، لا منذ حرب أحمس لطرد الهكسوس واستعادة الهوية المصرية؛ فمصر خاضت حروبا خارجية أنقذت المنطقة من الضياع بصد جحافل التتار في عين جالوت، وصد حملة لويس التاسع عند المنصورة. لكنها اليوم تواجه العدو في الداخل، وإن كان يستهدف المنطقة كلها.
بعد تدمير الجيش العراقي، والجيش الليبي، وإمكانيات سوريا العسكرية، يحاول طابور الإخوان الخامس وتنظيمهم السري (رأس حربة الإرهاب العالمي) تمزيق مصر وتدمير جيشها، عماد الدولة لستة آلاف عام.
الشعب المصري أدرك بغريزته هذه الخطورة التاريخية.
نظر الشعب حوله، فوجد معارك التمزيق تشتعل على الحدود الغربية والشرقية والجنوبية، إلى جانب انتشار الإرهاب والقلاقل في سوريا والعراق واليمن، وتهديد النيل استراتيجيًا، فكان من الطبيعي أن يكون خيار الشعب الغريزي وزير الدفاع السابق والرجل صاحب الإرادة والخبرة العسكرية والقدرة على توفير الأمن والحماية.
رجل نجح في الاختبار الصعب الصيف الماضي، وتحمل الإهانات والضغوط من القوى العالمية، لكنه فضل حب مصر على تلويحات وإغراءات وتهديدات الولايات المتحدة وحلفائها.
العامة البسطاء في أي شعب في العالم ليسوا فقط الأغلبية، بل أيضا، بالغريزة يفضلون اختيار من يوفر الأمن على من يطلق الشعارات.
والمصريون، غريزيا، راهنوا على من يتصدى للإرهاب والتهديد ويقود المحروسة نحو الأمان على من يذكرهم بالحقبة الثورية في الستينات وتوريط مصر في حروب الغير. الحلفاء والأصدقاء العرب، وهم العمق السياسي والاقتصادي لمصر، يفضلون هذا الخيار أيضا. بما أن النتيجة محسومة أصلا فما هي الحاجة في تغطية بدت وكأن المتنافسين يعدوان كتفا إلى كتف؟
ألم يكن أكثر نفعا تركيز الحوارات التلفزيونية على مشاركة المصريين بتقديم أفكار الإصلاح ومناقشتها؟
وحتى الشعارات الانتخابية لم تناقش من ناحية التطبيق العملي.
المرشح المنافس يعد بتشغيل ملايين الشباب، والمذيعون لا يسألون عن التفاصيل البديهية: كم سيتكلف الوعد؟ ومن أين ستأتي هذه الميزانية؟ هل من ضرائب جديدة ستفرض؟ هل تستقطع من ميزانية الخدمات؟
تقصير من جانب (تقريبا) كل الشبكات والمحطات التي شاهدتها.
وعندما يطرح المرشح الأكثر شعبية أن برنامجه سيكون العمل الشاق من أجل بناء مصر؛ أضاع المحاورون ومقدمو البرامج المصريون فرصة تاريخية بعدم تشبيك المفكرين الاقتصاديين وأصحاب الخبرة الاستثمارية مع الشباب في حوار شعبي (خاصة أن موضة مشارك المستمعين والمشاهدين بالبريد الإلكتروني والتليفون، و«تويتر» تزداد سخونة وانتشارا) لمناقشة اقتراحات ومشاريع واستثمارات، بمبادرات مصرية.
الملاحظ أن الوعود، خاصة من المرشح المنافس بشعارات الحقبة الناصرية، لا تزال الاتكال والاعتماد على الدولة والقطاع العام في توفير فرص عمل تعتمد كلها على الخزينة العامة التي تحصل على أقل من 20 في المائة من مدخول ضرائب أي اقتصاد مماثل بسبب تعقيدات وعدم فعالية النظام واللوائح الضرائبية وطريقة تحصيل الضرائب.
غابت مناقشات إصلاح النظام الضرائبي لتوفير ميزانية القطاع العام خاصة لتيار (الأغلبية بين المثقفين المصريين) الاعتماد على الدولة لتوفير الوظائف والدعم.
وعندما سرب (غالبا من مصادر رجال الأعمال) نبأ لقاء المستثمرين ورجال الأعمال مع المرشح السيسي وأثير موضوع تقديم المستثمرين بضعة مليارات، كان تناول الصحافة للخبر مخيبا للآمال.
كان يمكن أن يكون مدخلا في البرامج الحوارية لمناقشة: أي شكل سيقدم رجال الأعمال هذه المليارات (تراوح المبلغ ما بين 7.2 مليار إلى 13 مليارا)؟ نقدا للخزينة؟ أم أصولا ومباني وآلات؟ مشاريع بنية تحتية أو تمول مشاريع جارية؟ خدمات؟ بناء مدارس؟ تمويل بعثات الخريجين؟ بناء مصانع لتوفير فرص عمل؟
لم أر أيا من هذه الأسئلة يطرح، سواء في أعمدة الكتاب أو برامج الحوار التي هم مقدمي بعضها الأول الظهور بأزياء الماركة المسجلة للشهرة البصرية..