كتاب 11
ليبيا وغزة.. سؤالان أمام مصر السيسي
ما لم تقع مفاجأة أكبر من كل ما هو متوقع، سيجري الأسبوع المقبل انتخاب المشير عبد الفتاح السيسي رئيسًا لمصر، والأرجح أن ذلك النوع من المفاجآت مستبعد. ليس جديدًا القول إن تحديات الوضع الداخلي، خصوصًا على المستويين الأمني والاقتصادي، تتربع على رأس أولويات الرئيس الآتي لحكم مصر بتفويض شعبي معتبر سبق ترشحه، ودفع في اتجاه حسم اختياره بين الاستمرار المتمكّن في خندق مسؤولية القائد العسكري، وبين خوض مخاطرة تحمّل مسؤوليات زعيم سياسي تحاصره تطلعات أغلبية شعبه، مع ملاحظة خطورة رفع الناس لسقف التوقعات بدرجة قد تفوق ما بوسع طاقة أي رئيس أن تحتمل.
على الصعيد الخارجي، يمكن القول إن عواصم عربية وعالمية عدة تنتظر وضوح موقف الرئيس السيسي، وكيفية تعامل إدارته مع عدد من الملفات العربية والدولية ذات الحساسية الخاصة، وبعضها يرتبط مباشرة بالوضع الداخلي المصري. في هذا السياق، الأرجح أن تتقدم تطورات الشأن الليبي على غيرها. كم هو مؤلم ما جرى في ليبيا من انقسام وفوضى ميليشيات بعد إطاحة حكم معمر القذافي. لكن سواء بالنسبة لأهل ليبيا ذاتها، أو لجيرانها وكل من يعنيهم أمن شعبها واستقراره، واضح أن تعقيدات الأمور تجاوزت مرحلة الألم لتدخل حيّز خطر التفتت، الذي ارتفعت أصوات عدة تحذر منه طوال السنتين الماضيتين. وعلى الرغم من أن عنف الميليشيات الجهادية وإحكامها السيطرة على مناطق بأكملها، شكّلا بداية الحفر بأسس الوحدة الليبية، فإن تحرك اللواء خليفة حفتر، كما يبدو لمراقبين كثر، قد يُدخل ليبيا نفق حرب أهلية يصبح التفتت معها أمرًا مفروضًا لزمن غير معلوم، مع ما سيجره ذلك الواقع من مخاطر على مصر وغيرها من دول الجوار الليبي. كيف سيتعامل عبد الفتاح السيسي، رئيس مصر المنتخب الأسبوع المقبل، ذو الخلفية العسكرية، مع حرب أهلية محتملة في ليبيا؟ سؤال ليس من السهل غض النظر عنه، وليس من الحكمة استباق الأمور بتخيل إجابة له، خصوصًا لجهة العزف على نغمة احتمال توفير إسناد مصري لتحرك اللواء حفتر، بافتراض أن الآتي من منفى الانشقاق عن معمر القذافي، يستطيع أن يعيد فرض الأمن بقبضة حديدية. ذلك، في تقديري، نوع من الوهم، أو التصوّر الرغبوي. كلا، لا ليبيا، ولا مصر، ولا أي شعب دخل مخاض انتفاضات ربيع 2011 يمكن أن يعود من جديد لما انتفض ضده.
صحيح أن الشعوب تريد الأمن والاستقرار، ولأجلهما يمكن لها تأجيل الحلم الديمقراطي بثوبه المثالي، إنما يخطئ من يتوهم أن أيًا منها يحنّ لأي شكل استبدادي يهين كرامة الناس ويسلبهم حق أن يعيش المواطن مرفوع الرأس.
سؤال ثانٍ على الصعيد الخارجي يخص موقف الرئيس السيسي وكيفية تعامل إدارته مع غزة. ليس خافيًا أن الآمال بين أهل القطاع تحلِّق عاليًا لجهة أن تُقْدِم مصر السيسي على رفع ما طال من معاناة إغلاق معبر رفح. انتعشت تلك الآمال وارتفع سقف توقعاتها بعد توقيع اتفاق الصلح بين حركتي حماس وفتح، ومع انتعاشها تلاشى، أو على الأقل تراجع، ما شاع عبر بعض المواقع الإنترنتية عن دعم مصري لطرف على حساب طرف آخر، ضمن معارك تصفية حسابات بين قيادات داخل حركة فتح، ناهيك بتلك التي بين زعماء تنظيمات غيرها، وهي معارك لطالما اشتعلت منذ أكثر من أربعين سنة، وكلما تفاءل عموم الفلسطينيين وبسطاؤهم، أن أوارها خمد إلى الأبد، عادت كما كل الفِتن الشريرة تطل برأسها من جديد.
بالطبع، ليس من قلب ينبض بحب الإنسان لأخيه الإنسان يمكن أن يقبل بما يتسبب به أي حصار يطوّق أي شعب، سواء فاق عدده المليون أو قل عن الألف. الحصار هو الحصار. وليس من عاقل بمصر ينكر ما يسببه إغلاق معبر رفح من مصاعب للعاديين من ناس غزة تبلغ أحيانا درجة المآسي، خصوصًا في حالات المرضى أو الطلاب والطالبات ممن تضيع عليهم وعليهن هباءً سنوات تعب وجهد دراسي، كما أنه ليس يعقل تصوّر أن بين أهل مصر، من صعيدها إلى سينائها، مرورًا بساحلها ودلتا نيلها، من يريد ذلك الألم لأهل غزة عن عمد وسابق قصد. بالمقابل، ليس من العقل افتراض أن بين أغلبية أهل قطاع غزة من يريد شرًا بمصر وأهلها، كيف يجوز مثل هذا الافتراض وبين غزة ومصر ما بينهما من صلات نسب ومصاهرة، هي نتاج قرون من التواصل والمصالح المتبادلة. أين المشكل إذنْ؟ باختصار شديد يعرفه الجميع، على الضفتين المصرية والغزية، المشكل هو في غياب الثقة.
لماذا غابت، من أضاع ثقة تمتع بها أهل قطاع غزة في مصر، منذ زمن جمال عبد الناصر؟ أضاعها أولاً سوء تصرف فلسطيني اعتبر أن الرد على الإغلاق هو حفر الأنفاق، ثم إطلاق العنان لجشع من راح يدير تجارتها، فاتسعت على نحو كادت معه تتحول إلى مدن تحت الأرض، وشاع بين الناس أن أطرافا داخل مصر، وفي إسرائيل أيضا، أسهمت بغرض الثراء الشخصي في ازدهار تجارة الأنفاق حتى إنه لم تعد هناك سلعة تستعصي على عبورها كي تصل إلى أسواق غزة، من السيارة الفارهة إلى الهاتف الذكي. وأبلغني مصدر غزاوي أثق بصدقيته، أن عضوًا بوفد سوداني جاء غزة متضامنًا ومستنكرًا الحصار، همس لأحد المرافقين أن بعض السلع المتوفرة عبر أنفاق غزة غير متاح في الخرطوم. لذا لم يكن غريبًا أن «تشرعن» سلطة حماس تجارة الأنفاق بفرض ضرائب عليها. السؤال، أَعَجَبٌ وقد بلغت الأنفاق ذلك المستوى، أن تستخدم فيما يثير ريبة أجهزة الأمن المصري، خصوصًا بعد تفاعلات سنة حكم الإخوان المسلمين؟ كلا، ليس في ذلك ما يثير العجب. أكثر من ذلك، تطور الشك المصري وكبر بعدما تصاعدت عمليات العنف المسلح في سيناء، وبعدما ألصق المنفذون لها اسم القدس بها، وهكذا تعيد بعض المزاعم الفاسدة إنتاج ذاتها من جديد، كأنما تحرير القدس يجب أن يكون على حساب أمن أي شبر بأي أرض عربية.
كيف تعود تلك الثقة المضيّعة؟ لأن مصر هي الأكبر والأمكن، يؤمل منها أن تبادر، فتضع إطارًا جديدًا يخفف عن أهل غزة عبء العقاب الجماعي بسبب سوء تصرف أقلية، ومن دون أن يتهاون بما يتعلق بأمن مصر. مثلًا، فرض تأشيرة دخول تخضع بياناتُ طالبها لفحص أمني دقيق قبل منحها، يمكن أن يشكل أول الطريق. في كل الأحوال، ليس صعبًا على من وضع خارطة طريق لمصر أوصلته عبر صندوق الاقتراع إلى رئاستها، أن يضع غزة والقاهرة على طريق استعادة ثقة كان من الخطأ أن تضيع.