كتاب 11
فقر وفقير.. وبينهما مشير!
أهم ما يستوقفنى فى البرنامج الانتخابى للمشير، كمرشح رئاسى، أنه مهموم بالفقر فى البلد، وأنه منشغل به، وأنه منزعج جداً من ارتفاع معدلاته بين المواطنين، ولذلك قرأت بعناية ما جاء على لسانه بهذا الشأن، فى حواره المنشور، أمس، مع الزميلين الأستاذين محمد عبدالهادى علام، وياسر رزق، فى الأهرام والأخبار معاً.
كنت شغوفاً، ولاأزال، بالتعرف على الطريقة التى سوف يواجه بها الرجل فقر الملايين حين يفوز. ولهذا السبب فإننى رحت أفتش فى كلماته، بالأمس، ثم أعيد قراءتها، لأرى كيف بالضبط سيتصدى من جانبه لهذه القضية العويصة.
هى عويصة، لأنها كانت شعاراً معلناً على لسان كل حكومة، وكل رئيس، منذ قامت ثورة يوليو 1952، إلى اليوم، ودون استثناء، ومع ذلك فإن المشكلة زادت فى حدتها، ولم تتراجع، بما يعنى أن الذين تعهدوا بالتصدى لها، من قبل، قد حاولوا ولم ينجحوا، وبما يعنى على وجه آخر أن الطريقة التى تصدوا بها لها لم تكن هى الطريقة الأصوب، فكان ما كان مما تراه أمامك بعينيك!
لقد قرأت على لسان المشير، فى حوار الأمس، أنه سوف يقيم أسواقاً ومجمعات استهلاكية لتقدم للفقراء سلعاً بأسعار معقولة.. ولابد أن هذا، فى حد ذاته، شىء جيد، بل ممتاز، غير أنه لن يقضى على الفقر، ولن ينتشل الفقراء من فقرهم، لأنك حين تبيع سلعاً بأسعار معقولة للفقير فأنت لا تنتزعه من فقره، بقدر ما تخفف فقط من حدة تأثيره عليه فى حياته، وإذا شئنا الدقة قلنا إنك، والحال هكذا، نحافظ عليه فقيراً.. إذ إن ما سوف يحدث، فى حالة كهذه، أنه سوف يستهلك السلع المقدمة له بأسعار معقولة، وسوف يسعد بذلك، دون أن تغير خطوة كهذه من طبيعة فقره، ولا من معدله.. وبالتالى فعلاج من هذا النوع للفقير إنما هو مسكنات لا أكثر، ولابد أن هذا ليس ما نريده، ولا يريده المشير فى الوقت نفسه.
وعندما مضيت مع بقية كلام الرجل فى الموضوع، تبين لى أنه يقول إنه سوف يعمل على إدخال المياه والكهرباء إلى القرى المحرومة، خلال عامين، وهذا بدوره شىء رائع، ويخطو مع الفقراء خطوة أرقى من خطوة السلع ذات الأسعار المعقولة، لأنك هنا تتحدث عن مرافق ضرورية فى حياة كل مواطن، فضلاً عن أن يكون هذا المواطن فقيراً، ومن شأن مرافق ذات مستوى، من هذه النوعية، أن تجعل المتمتعين بها من الفقراء أكثر سعادة بحياتهم مما كانوا عليه من قبل، ولكنها لا تجعلهم أقل فقراً!
ولذلك، فإننا، حتى الآن، ورغم أهمية هاتين الخطوتين، خطوة السلع بالأسعار المعقولة، وخطوة المرافق الجيدة، لم نضع أقدامنا بعد، كدولة، على بداية الطريق الذى يتعامل مع الفقر، كظاهرة، من جذوره، وليس من أعراضه وعناوينه.
جذور الفقر لها علاقة لا تنفصم بالتعليم فى البلد، ومستواه، بحيث يمكنك أن تقول، وأنت مطمئن، إن البلد الذى ينعم أبناؤه بتعليم جيد، إنما هو بلد لا يعرف مواطنوه الفقر، بأى صورة، والعكس صحيح.
عدت إلى كلام المشير، فوجدته يقول إن برنامجه الانتخابى يضمن أن يشعر الفقير بتحسن فى الخدمات المقدمة له، خصوصاً الصحة والتعليم.
وهنا، أحسست بأنه قد وضع يده على أصل المشكلة، وعلى جوهرها، غير أنى كنت أتمنى أن يكون ذلك أولوية مطلقة عنده، لا عنواناً عابراً شأن غيره من العناوين.
فالسلع بأسعار معقولة، والكهرباء معها والماء، كلها أشياء يحتاجها الفقير، ولكنها لا تخرجه من فقره على المدى الطويل، ولو ظللت تقدمها له لمائة عام مقبلة.. أما التعليم، والتعليم الجيد وحده، فهو الذى ينتشله انتشالاً على المدى الطويل، ولن يكون ذلك ممكناً إلا إذا تحول الأمر، لدى المشير حين يفوز، من الانشغال بالفقر إلى الاشتغال عليه، طوال الوقت، ومن باب التعليم تحديداً، دون غيره من الأبواب.